تقديم الخبر على المبتدأ في القرآن الكريم
تُعَدُّ قاعدة تقديم المبتدأ على الخبر هي الأساس في بناء الجملة العربية، كما أشار ابن مالك في مؤلفه قائلاً:
والأصل في الأخبار أن تؤخرا
وجوّزوا التقديم إذ لا ضررا.
ومع ذلك، فإن وضع الجملة في اللغة العربية يمكن أن يتغير نتيجة لعوامل متعددة، سواء كانت نحوية أو غيرها. وهذا يتجلى بوضوح في الجمل الاسمية المكونة من مبتدأ وخبر، حيث يمكن أن يتغير ترتيب الجملة من خلال تقديم أو تأخير المبتدأ والخبر وفقًا لما يلي:
أمثلة على تقديم الخبر على المبتدأ وجوبًا في القرآن الكريم
تتقدم الخبر في بعض الأحيان على المبتدأ، مخالفًا القاعدة، لأسباب نحوية أو لأغراض بلاغية مثل التشويق، التعميم، أو التخصيص. ويكتسب هذا النوع من التقديم صفات الوجوب في أربع حالات رئيسية:
- عندما يكون الخبر من الألفاظ التي تتصدر الجملة، مثل أسماء الاستفهام (أين، كيف، متى).
كمثال، إذا سألنا أحدهم: “أين الكتاب؟” فإن “أين” تكون خبرًا مقدمًا، حيث إنها اسم استفهام يتطلب الصدارة ولا يجوز تقديم المبتدأ (الكتاب) عليها. ومن الأمثلة القرآنية على ذلك قوله تعالى: “ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ”، حيث نجد أن الخبر (أين) وهو اسم استفهام تقدم على المبتدأ، وتحمل الدلالة البلاغية على عظمة الفعل الذي قاموا به من عبادة الأصنام.
- إذا كان الخبر محصورًا في المبتدأ.
على سبيل المثال، نقول: “ما في الصف إلا خالدٌ”، حيث تم حصر الموجود في الصف بخالد، الذي يمثل المبتدأ المتأخر. ومن الشواهد القرآنية على ذلك قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۙ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ۚ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”، حيث أن كلمة الكبر محصورة في شبه الجملة (في صدورهم) لتعكس سبب الجدال الموجود في قلوبهم.
- إذا كان الخبر ظرفًا أو جارًا ومجرورًا (شبه جملة)، بشرط أن يكون المبتدأ نكرة غير معرفة أو بلا مسوغ.
على سبيل المثال، نقول: “عندك كتاب؟” أو “في المدرسة مكتبة”، حيث لا يمكن تقديم المبتدأ (كتاب، مكتبة) على الخبر (عندك، في المدرسة) كونهما شبه جملة والمبتدأ نكرة غير محددة، لذا يتعين تقديم الخبر. ومن الأمثلة القرآنية في هذا السياق قوله تعالى: “وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ”، حيث يتقدم شبه الجملة (لكم) على المبتدأ النكرة (منافع)، ويعكس الغرض البلاغي من تقديم الخبر الامتنان لعطاءات الله تعالى.
- إذا كان في المبتدأ ضمير يعود على بعض الخبر.
ومثال ذلك، عندما نقول: “في المدرسة طلابها”، حيث يتواجد ضمير في المبتدأ المتأخر (طلابها) والذي يعود على “المدرسة”. في هذه الحالة، يتطلب الأمر تقديم الخبر؛ لأنه إذا قدمنا المبتدأ ليصبح “طلابها في المدرسة”، فسوف يعود الضمير على ما تأخر، وهو ما لا يجوز نحويًا.
وقد وردت العديد من الشواهد القرآنية التي تدعم ذلك، من بينها قوله تعالى: “وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ”، حيث “كتاب” هو المبتدأ المؤخر لأنه نكرة بلا مسوغ، والخبر شبه جملة (من قبله)، مما يبرز أهمية الخبر كالمقصود في الجملة.
أمثلة على تقديم الخبر جوازًا في القرآن الكريم
سمح العلماء بتقديم الخبر على المبتدأ في حالات عدم وجود لبس أو أسباب تمنع ذلك. يمكن القول بأن تقديم الخبر على المبتدأ جائز في الحالات التالية:
- إذا كان الخبر على شكل شبه جملة (ظرف أو جار ومجرور)، وكان المبتدأ معرفة. مثال: قوله تعالى: “لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”، حيث يتقدم الخبر جوازًا على المبتدأ لأنه معرف بالإضافة، والخبر شبه جملة (له)، مما يحقق الغرض البلاغي في التخصيص.
- إذا كانت المبتدأ والخبر معرفة أو نكرة مع وجود دليل عليهما.
- إذا كان الخبر على شكل جملة فعلية وليس مفردًا.