تعريف بالشخصية الثقافية والفكرية لعبد الحميد بن باديس

الجزائر والاستعمار الفرنسي

عند دراسة تاريخ الجزائر الحديث، يتبين بوضوح وجود نوايا خفية وتخطيطات متواصلة تهدف إلى تغيير هوية وثقافة ودين الشعب الجزائري. يُلاحظ أيضاً كيف أن الشعب الجزائري كان على استعداد للدفاع عن دينه الإسلامي وثقافته العربية الإسلامية، حيث لا تزال كتب التاريخ تسجل ما صرح به سكرتير الجنرال الفرنسي بيجو بعد وضع خطة الاحتلال، مُشيراً إلى أن أيام الإسلام هنالك أصبحت معدودة.

لقد أثمرت تلك التخطيطات والمؤامرات لفترة من الزمن؛ إذ تدهورت الأوضاع الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والدينية في الجزائر. أصبحت اللغة الفرنسية اللغة السائدة، وجرى تقييد الدين ضمن نطاق ضيق، وانتشرت حركات دينية ساهمت في غرس البدع والخرافات في المجتمع. ومع ذلك، استطاعت مجموعة من المؤمنين المجاهدين إنعاش الروح الوطنية لدى الجزائريين، وكان من أبرز هؤلاء الشيخ عبد الحميد بن باديس، الذي يُعد رائداً لحركة النهضة الإسلامية الحديثة في الجزائر، حيث حمل شعلة التغيير لأجيال المستقبل وترك إرثاً علمياً وثقافياً ما زالت إشعاعاته ظاهرة حتى وقتنا الحاضر.

عبد الحميد بن باديس

عبد الحميد بن باديس هو عبد الحميد بن محمد بن مكي بن باديس، من أصل جزائري، وُلد في الرابع من ديسمبر 1889 في مدينة قسنطينة، إحدى مدن الجزائر. يُعتبر من رواد النهضة الإسلامية في بلاده ومن أبرز رجال الإصلاح على مستوى الوطن العربي.

ينتمي الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى عائلة تتمتع بنسب كريم وحسب عريق، حيث اشتهرت أسرته بعلمها وثرائها في المغرب العربي، مما ساعده على التحرر من قيود الوظيفة تحت الإدارة الفرنسية المحتلة. هذه الظروف مكنته من تكريس جهوده لإحياء روح النهضة والكفاح الوطني في الشعب الجزائري ودعم ثورته ضد الاستعمار الفرنسي.

نشأة عبد الحميد بن باديس

نشأ عبد الحميد بن باديس في كنف أسرة تُعنى بالمحبة والبر، حيث حرص والده على تربيته تربية جيدة ووجهه نحو اتباع نهج عائلته الكريمة. بدأت رحلته التعليمية في قسنطينة حيث تعلم أساسيات الدين الإسلامي واللغة العربية، وحفظ القرآن الكريم على يد شيخه حمدان الونيسي وهو في الثالثة عشرة من عمره، حتى قام بإمامة المصلين في صلاة التراويح.

رحلة عبد الحميد بن باديس في طلب العلم

في عام 1908، التحق الشيخ عبد الحميد بن باديس بجامع الزيتونة في تونس، حيث درس على أيدي العلماء المعروفين مثل محمد النخلي والشيخ الطاهر بن عاشور. قضى ثلاث سنوات في الدراسة ثم درّس هناك عاماً آخر. هذه التجربة ساهمت في توسيع معرفته بما كان يجري في العالم الإسلامي، مما جعله تلميذاً بارعاً ومعلمًا متميزًا يجمع بين المعرفة والثقافة.

توجه الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى الحجاز في عام 1913 لأداء فريضة الحج، وخلال وجوده في المدينة المنورة، تعرف على عدد من العلماء البارزين، ومن بينهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي. واصل بن باديس رحلته إلى سوريا ولبنان ثم مصر، حيث تواصل مع مجموعة من العلماء المصريين مثل الشيخ محمد بخيت المطيعي.

إنجازات عبد الحميد بن باديس

ساهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في مجالات فكرية ومعرفية متعددة، ومن أبرز إنجازاته:

  • في مجال التعليم: اتفق الشيخ عبد الحميد بن باديس مع الشيخ البشير الإبراهيمي على بدء حركة تعليمية عند عودتهما إلى الجزائر. بدأ ابن باديس هذا المشروع بعد عودته، حيث أطلق نشاطه التعليمي في المسجد الكبير بقسنطينة، ثم انتقل إلى المسجد الأخضر وبدأ بدروس لعدد قليل من الطلاب، قبل أن يتزايد عددهم ويؤسس مدارس فكرية في مختلف المناطق، مُخرجاً العديد من قادة حركة النهضة الجزائرية.
  • في مجال الصحافة: أدرك الاحتلال الفرنسي أهمية الصحافة العربية فأنشأ مجموعة من الصحف لنشر بياناته الرسمية، إلا أنها افتقرت إلى التحرير الجيد. هنا لعب ابن باديس دوراً بارزاً من خلال تأسيس صحيفة “المُنتقد” عام 1925، ساعياً من خلالها لإحداث تغيير جذري في الثقافة والفكر الجزائري.
  • في مجال السياسة: أثار نشاط الشيخ عبد الحميد بن باديس جدلاً حول دور العلماء في العمل السياسي، حيث أكد في مقالاته على أهمية مشاركتهم ونجح في تنظيم مؤتمر عام جمع مختلف الأحزاب والتيارات الفكرية في الجزائر. تعرض لانتقادات شديدة لكنّه تمسك بموقفه، مُبرزاً أن المسلمين تأخروا عن الحضارة بسبب إقصائهم العلماء عن الحكم.

وفاة عبد الحميد بن باديس

توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس في مسقط رأسه قسنطينة في 16 أبريل 1940، إثر مرض مفاجئ. شهدت الجزائر جنازة تاريخية له، حيث تدافع أهالي المدينة للمشاركة في تشييعه، وجاءت وفود من مختلف أنحاء الجزائر لتوديع عالِمها الغالي.

Scroll to Top