بالعمل تتحقق النِّعم
يُعتبر العمل من أهم القيم التي أجمعَت عليها جميع الشرائع السماوية، حيث تمَّ تمجيده وتعزيز مكانته العالية. لقد مارس جميع الأنبياء، رغم علوّ مكانتهم في السماوات والأرض، حرفًا تعينهم على كسب قوتهم. فقد كان نوح عليه السلام تاجرًا، وعمل آخرون بالتجارة والزراعة، ليختتم مسيرة الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عمل في رعي الأغنام ثم في التجارة. وقد رفع النبي -عليه الصلاة والسلام- من شأن العمل والعمال، مبرزًا قيمتهم المهمة.
ومن دلائل بركات العمل، البركة في القوت والمال. ففي أحد الأيام، اقترب أحد الصحابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن المال، متكررًا في طلبه. فأجابه النبي -عليه الصلاة والسلام-: “إنَّ هذا المال خَضِرَةٌ حُلُوَةٌ، فمن أخذه بسخاء نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، كمن يأكل ولا يشبع، اليد العُليا خير من اليد السُفلى”. حينها أقسم الصحابي على عدم أخذ عطاء من أحد، لأن العمل يتمحور حول القيمة الجوهرية للإنسان في السعي بكدٍ في سبيل رزقه، مُدَعاةً له لإحترام النعم الكثيرة التي أنعم بها الله على الإنسان، خاصة نعمة الصحة، مما يتطلب السعي الحثيث لكسب الرزق الحلال.
وختامًا لهذا الحديث حول أهمية العمل، يجدر بنا التأكيد على ضرورة الحفاظ على هذه النعم، والتحصن ضد الكسل الذي كان يستعيذ منه النبي الخاتم. وقد ورد عن الصحابة -رضوان الله عليهم- العديد من القصص التي تعكس احترام العمل واعتباره قيمة سامية، خاصة من سيدنا عمر بن الخطاب الذي كان يسعى في التعرف على صنعة كل شاب يعجبه، مؤمنًا بأن من لا يمتلك حرفة قد فقد أحد مقومات قيمته الهامة، وهذا فعلاً يُعبر عن الهيبة التي يتمتع بها العمل.
اتقن عملك لتبني وطنك
الوطن هو أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الملاذ الذي يلجأ إليه في خضم الحياة. إنه الأم التي تجمع أبناءها، لذا ينبغي أن نبذل الغالي والنفيس في سبيل بناءه ليكون رمزًا بارزًا بين الأمم عبر العصور. مهما كان نوع العمل، فإن كل جهد يُسهم في بناء الوطن وتعزيز مكانته إذا كان عملًا شريفًا. وفي أحد الأيام، جاء رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المال، فقال: “لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بحُزْمَةِ الحَطَبِ على ظَهْرِه، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بهَا وَجْهَهُ خيرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ”. وبالرغم من بساطة هذا العمل، إلا أنه يحمل أهمية كبيرة للفرد والمجتمع.
حتى تتمكن من المساهمة في بناء وطنك، يجب أن تتقن عملك، بحيث تصبح مبتكرًا ومتفوقًا في مجالك. جاء الإسلام ليُعزز قيمة الإنسان العامل والمتوكل على الله، مما يجعله يسعى لتلبية حاجاته الأساسية ثم يساهم في وطنه بما يمكنه من توفير خيرات له. فالنموذج الجيد هو الطبيب المبدع الذي يكتشف علاجًا فعالًا، والمهندس الذي يبني وطنه بكفاءة عالية، والمعلم الذي يُشكل عقول الجيل الجديد. لذا، ينبغي على كل عامل الالتزام بإتقان عمله، اتباعا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتقنَه”. لأن الإهمال والإسطمار في العمل قد يؤديان إلى هدم أركان المجتمع وتدمير مستقبل الوطن.
العمل يغني عن السؤال
التسول يُعتبر من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تُهدد استقرار المجتمع، وقد تصدى الإسلام لهذه المشكلة بقوة. من أبرز السبل التي اتبعها لمواجهة التسول هو تحريمه لطلب العون من الناس، مؤكدًا على قيمة العمل بوصفه وسيلة لصون كرامة الإنسان. وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: “اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى”، حيث تُعتبر اليد العليا رمزًا للعطاء، بينما تعبر السُفلى عن الحاجة. وبالتالي، يُشجع الإسلام على العطاء والعمل كعبادة قريبة من الله، طالما أنها تأخذ المكانة الصحيحة ضمن إطار الحلال وتحقيق الكفاية للذات والعائلة.
وفي هذا السياق، يجب على من يتركز على التسول بحجة الاعتماد على الله -سبحانه وتعالى- أن يدرك أن تصرفه بعيد كل البعد عن مفهوم التوكل، إذ إن التوكل يتطلب السعي والمجهود. يقول الله في محكم تنزيله في سورة الملك: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}. استحضارًا لقصة الرجل الذي كان يدعو الله في المسجد للرزق، فنصحه النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن السماء لا تمطر ذهبًا أو فضة، وإنما يجب عليه العمل بحثًا عن رزقه، مثل الطائر الذي يسعى بجد رغم عدم وجود هداية.
العمل يحقق الفائدة المادية والمعنوية
الاكتئاب والمرض والشعور بالعجز تأتي نتيجة للكسل والارتماء في حضن الخمول. لذا، فإن العمل يُعد مصدرًا للقوة المعنوية التي يُكتسبها الفرد من خلال مزاولة أي عمل. فطالما كان الشخص بلا هدف أو عمل، يتعرض للشعور بالفراغ الذي يُغريه بالانحرافات والمعاصي، مما قد يؤدي به إلى الجريمة. وفي ظل العمل، يحصل الفرد على ما يسعى إليه، مما يجعله قائدًا لنفسه وللآخرين، إذ أن المال يمثل قوة وعزوة، كما ذكر الشاعر أحمد شوقي في تمجيده للعمل:
سَعيُ الفَتى في عَيشِهِ عبادة
وَقائِدٌ يَهديهِ إلى السعادة
لِأَنَّ بِالسَّعيِ يَقومُ الكَونُ
وَاللّهُ لِلساعِينَ نِعمَ العَونُ
فَإِن تَشَأ فَهَذِهِ حِكايَةٌ
تُعَدُّ في هَذا المَقامِ غاية
كانَت بِأَرْضٍ نَملَةٌ تَنبالَة…
إن العمل يُغنِي عن كل معالم الخمول ويعد وسيلة لصقل شخصية الفرد، مما يزيد قدرته على تحمل المسؤولية والصبر، الأمر الذي يعزز ثقته بنفسه. فالشخص الذي يشتغل سيتعامل بشكل أفضل مع مختلف المواقف الحياتية، وذلك من خلال احتكاكه بالأشخاص وتجاربه المتنوعة. كما يضمن العمل أن يتصرف الفرد بشكل سريع وحازم في الأوقات الحرجة. وقد أكد الشاعر بالصواب أن العمل يُعلم فنون الحياة، مما يُسهم في بناء مجتمع قوي قائم على وعي أفراده. إنما الحافز الجيد لتحقيق أهداف سامية يرتكز على العمل والتفاني لتحقيق ما ترنو إليه أنفسنا.
وها هو سيدنا سليمان عليه السلام يسأل الله -تعالى- ملكًا لا ينبغي لأحدٍ قبله وبعده، ومع كل ما أعطاه الله، إلا أنه لم يتوان عن العمل، وهو شكر لله على نعمه. إن من يسعى ليحظى بالقوة في مواجهة الصعوبات النفسية أو في علاقاته الاجتماعية، عليه أن يبحث عن عمل يُبقيه معززا لمكانته ومؤديًا لشكره على نعمه. فالحمد لله الذي منحنا القدرة على العمل وتحقيق الأهداف.
لقراءة المزيد، يمكنك الزيارة هنا: موضوع تعبير عن العمل.