جمع الحديث النبوي
أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- برسالة الإسلام، التي تُعد ديناً خالداً، وجعله مُؤيَّداً بالوحي الإلهي، الذي يعد الوسيلة لنقل أحكام المسائل الجديدة إليه، بجانب إيجاد الحلول للمشكلات التي تقع في الأمة الإسلامية. ومن خلال الوحي يُنَزّل كلام الله، وهو القرآن الكريم. نظرًا لأهمية ما ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحكام، فقد وجّه بتعيين كتّاب لضبط ما يُنَزّل من القرآن، وحرّم عليهم كتابة ما ينطق به من أحاديث، حتى لا يحدث خلط بينهما في المستقبل.
عندما استقر القرآن الكريم وحفظه الصحابة وعرفوا آياته وسوره، وعلموا بما يتعلق بالناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، بدأوا بعد ذلك بتدوين ما سمعوه من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرصاً على تلبية أوامره وحفظاً للدين والشريعة. لكن كتابة الأحاديث لم تكن منظمة ولا ممنهجة، إذ لم يتجاوز عدد كتّابه بضعَ كُتّاب، وكان عملهم يعتمد على الحفظ والاجتهاد الشخصي. ومع انتشار الإسلام ودخول العرب وغيرهم فيه، ومدى الفساد الذي حصل بين الناس، أدرك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أهمية جمع السنة. فاستشار الصحابة وجمعوا ما صح من الأحاديث، وأصبح ذلك علماً مستقلاً برز فيه العديد من العلماء، مثل الإمام مسلم الذي جمع أحاديث النبي في كتابٍ عُرف باسمه، وهو “صحيح مسلم”.
الإمام مسلم
الاسم والنسب
الإمام مسلم هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القُشيرِي النَّيسابوري، وُلد في نيسابور وهي مدينة كبرى خلال تلك الفترة. وقد اختلف العلماء حول سنة ولادته، فبعضهم ذكر أنه وُلِد عام 201هـ، وآخرون أشاروا إلى أعوام 202هـ، 204هـ، و206هـ. تربي الإمام مسلم في مدينة نيسابور، التي ساهمت في إنجاح مهمته في جمع الحديث النبوي الصحيح.
النشأة والحياة العلمية
نشأ الإمام مسلم في أسرة تتميز بالتقوى والصلاح، فقد كان والده الحجّاج من محبي العلم وحضور حلقات العلماء. بدأ الإمام مسلم منذ صغره في طلب العلم، حيث لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره عندما بدأ سماع الأحاديث وحفظها. ومن شيوخه البارزين: عبد الله بن مسلمة القعنبي ويحيى بن يحيى النيسابوري، بالإضافة إلى قتيبة بن سعيد وآخرين كثيرين.
الوفاة
توفي الإمام مسلم في عام 261هـ، وذكر أنه توفي بعد تناوله كميات كبيرة من التمر واستغراقه في البحث عن حديث سأله عنه أحد تلاميذه، إذ ظل مستيقظاً حتى ساعات الفجر. وقد توفي في 25 من رجب من العام المذكور، والذي يوافق 6 من مايو عام 875م، وكان عمره آنذاك 55 عاماً. وتم دفنه في نصر آباد بنيسابور في يوم الاثنين.
كتاب صحيح مسلم
الاسم الحقيقي لكتاب صحيح مسلم
يُعرف كتاب صحيح مسلم باسم الإمام مسلم بن الحجاج، إلا أن اسمه الحقيقي هو “المُسنَد الصحيح المختصر من السُنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”. استخدم اسم “صحيح مسلم” تسهيلاً، بسبب طول الاسم الأصلي وصعوبته لبعض القراء.
وصف عام لصحيح مسلم
صحيح مسلم هو كتاب شامل للأحاديث النبوية، حيث اختار المؤلف فيه فقط ما قَدَمَ بلا ضعف أو شبهة. افتتح الإمام كتابه بمقدمة تناول فيها أسباب تأليفه وطريقته في البحث، ثم ذكر بعض المسائل في علوم الحديث، قبل أن يدخل في الحديث نفسه مرتّباً إياه في كتب مع تسمية كل كتاب بما يتناسب مع الموضوعات الشرعية، مثل: الطهارة، والإيمان، والصلاة، والصوم، والزكاة وغيرها.
منهج الإمام مسلم في صحيحه
بالرغم من تصنيفه للعديد من الكتب، فإن “صحيح مسلم” هو الأنسب للذكر، حيث تم تأليفه على مدى خمسة عشر عامًا. وقد اتبع الإمام مسلم في جمعه للأحاديث أسلوب الإمام البخاري، حيث لم يضم في كتابه سوى ما اعتبره صحيحًا. جمع الروايات لنفس الحديث في مكان واحد وفق الموضوعات الفقهية، مما يُسهّل للقراء الوصول إليها. كما لم يكرر الحديث الواحد إلا إذا كان هناك إضافة مهمة للنص، مما يبرز معاني جديدة أو أحكام.
قسّم الإمام مسلم كتابه إلى 54 كتابًا، ووزع كل كتاب إلى أبواب، مرتّبًا الأحاديث بشكل دقيق. ويبلغ عدد أحاديث صحيح مسلم، دون المكرر، نحو 4000 حديث، بينما يصل عدد الأحاديث المكررة تقريبًا 7275 حديثًا.
آراء العلماء في صحيح مسلم
أبرز العلماء بعض مميزات كتاب صحيح مسلم، والتي قد تميزه أحيانًا عن صحيح البخاري، ومن أهم هذه الفضائل:
- يجمع الأحاديث على موضوع واحد في باب محدد، مما يقلل من عناء البحث.
- يقدم الأحاديث بجملتها دون تكرار في المتون المماثلة إلا إذا كانت هناك إضافة مهمة.
- يحتوي على أحاديث مدعومة بشواهد تعزز من صحتها.
- يمتاز بعدم رواية الأحاديث بالمعنى.
شروح صحيح مسلم
إن الدقة العالية في اختيار الأحاديث واهتمام العلماء بكتاب صحيح مسلم نتج عنه تأليف العديد من الشروح. ومن بين الأعمال التي تناولت شرح صحيح مسلم:
- المعلم بفوائد مسلم للإمام المازري، المتوفى عام 536هـ، والذي يتكون من ثلاثة مجلدات.
- إكمال المعلم للقاضي عياض، مكون من تسعة مجلدات.
- صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط لابن الصلاح، وهو شرح لكتاب الإيمان.
- المفهم شرح تلخيص صحيح مسلم لأبي العباس القرطبي في سبعة مجلدات.
- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي في عشرة مجلدات.
- إكمال إكمال المعلم للأبي.
- مكمل إكمال المعلم للسنوسي في سبعة مجلدات.
- الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السيوطي.
- حاشية على صحيح مسلم للإمام السندي.
- وشي الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج من تأليف علي بن سليمان البجمعوي.
- السراج الوهّاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج لصديق خان القنوجي.
- الحلّ المفهم لصحيح مسلم لإفادات الشيخ رشيد الكنكوهي الأنصاري.
- فتح الملهم بشرح صحيح مسلم لشبير العثماني.