صلة الآية بما قبلها
لا يمكن إدراك الآية بشكل صحيح دون النظر إلى سياقها، فهذه الآية جاءت ضمن مقطع من سورة البقرة الذي يتناول مثالب بني إسرائيل، وتحدياتهم لأنبيائهم ورفضهم لشريعة الله -عز وجل- عبر العصور والمواقع المختلفة. ومن أبرز الأمور التي ترتبط بتسلسل الآيات السابقة ما سيتم توضيحه أدناه:
- انتقاء نصوص الشريعة وفق أهوائهم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ).
- استكبارهم على أنبيائهم وإيذائهم بالتكذيب وأحياناً بالقتل: (اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ).
- ادعائهم عدم قدرتهم على فهم الشريعة: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ).
- طلبهم من الله شريعة تعزز مكانتهم، وعندما جاءت كفروا بها: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ).
- نقضهم للعهود وعدم وفائهم بها، وأحد أبرزها هو التعهد باتباع النبي القادم عند إثبات نبوته: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).
- بدلاً من اتِّباع النبي الصادق -الذي ثبتت نبوته-، اتبعوا السحرة وأهل الباطل: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ).
المعنى العام للآية
عندما تم سبي بني إسرائيل إلى منطقة بابل على يد نبوخذنصر الآشوري، انتشرت خرافات السحر والشعوذة بينهم. عانى الأنبياء الصادقون من تكذيب الناس لهم واتِّباعهم للدعاة إلى الباطل من المتمردين من الإنس والجن، حيث كان السحرة يتظاهرون بارتكاب معجزات لإخفاء الحق. في سياق ذلك، شاءت حكمة الله أن ينزل عليهم ملكين يُدعيان “هاروت وماروت” ليقوما بتمييز المعجزة عن السحر.
لقد بلغت حيلة شياطين الإنس والجن حداً جعلهم يدّعون أنهم اكتشفوا سحراً تحت كرسي النبي سليمان الذي ساعده في خرق الكثير من العادات، مما دفع الناس للجدال: هل يتبعون السحرة الذين يدعون النبوة على أنها معجزات، أم الأنبياء الصادقين الذين يجلبون أيضاً خوارق؟ ولذلك، أصبح من الضروري إنزال الملكين لتوضيح التفريق بين سحر المشعوذ ومعجزة النبي.
لم يكن الملكان يعلمان أحداً يرغب في التمييز بين السحر والمعجزة، إلا وقدموا له النصيحة بالتجنب من الوقوع في الحرام، مشيرين إلى أنهما اختبار له. فمن تعلّم الفرق بين السحر والمعجزة وأستخدم تلك المعرفة بطريقة خاطئة فإنه سيفقد إيمانه، بينما من تعلّمها ولم يعمل بها سيتعرّف على النبي الحقيقي والساحر، وبالتالي سيبقى ثابتاً على إيمانه. لكن اليهود، كعادتهم، تعلموا ما يضرهم -وهو السحر-، وتجاهلوا ما ينفعهم.
الإسرائيليات والمواضيع المتعلقة بقصة هاروت وماروت
ظهر في بعض كتب التفسير والتاريخ بعض الخرافات التي تسربت من المتأثرين ببني إسرائيل، ملخصها أن هاروت وماروت ملكين طلبا النزول إلى الأرض، ثم تعرضا لفتنة وارتكبا معصية، مما أدى إلى عقوبتهما من الله. ويدّعي البعض أن الزُهرة كانت الفتاة التي ارتكبا الفاحشة معها وأن اسمها أناهيد. ويجب على كل مسلم تجنب رواية أو نقل هذه الحكاية على أنها تفسير لأن جميع المسلمين يعلمون أنها مُختلقة.
وقد أشار العديد من العلماء إلى أن ما رُويَ من القصة مرفوعاً إلى النبي الكريم هو باطل على النبي بغض النظر عن عدد طرق روايته، فما بالك إذا كانت جميع أسانيدها موضوعة وواهية، ولا تخلو من وضَّاع أو ضعيف شديد الضعف. كما ذكر الشهاب العراقي أن “من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعاقبان على خطيئتهما: فهو كافر بالله”.