أواخر سورة البقرة
في ختام سورة البقرة، أنزل الله -تعالى- الآيات التي تبيّن إيمان الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- بما أنزل إليه من ربه، حيث جاء في قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ). وسنستعرض في ما يلي معاني هذه الآيات وتفسيرها.
معاني المفردات
سنقوم بتوضيح معاني بعض المفردات الواردة في هاتين الآيتين:
- آمن: أي صدّق وأيقن.
- الرسول: محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- أنزل إليه: تشير إلى القرآن الكريم.
- المصير: المرجع والحساب.
- وسعها: قدرتها واستطاعتها.
- ما كسبت: ما فعلت من الخير.
- اكتسبت: ما ارتكبت من الشر.
- تؤاخذنا: تعاقبنا.
- إصراً: أمراً ثقيلاً جداً.
- الذين من قبلنا: بني إسرائيل.
- طاقة: قوة وقدرة.
- مولانا: سيدنا ومتولي أمورنا.
سبب النزول
وفقاً لما رواه الإمام مسلم في صحيحه، ذكر أبو هريرة -رضي الله عنه- سبب نزول هاتين الآيتين. حيث كان الصحابة يشعرون بالجزع والخوف بسبب قوله -تعالى-: (لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُم به اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فقد كان القلق يساورهم حيال ما قد يحدث إذا كانت خواطرهم لا ترضي الله.
وعندما شعر الصحابة بهذا القلق، توجهوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعبّروا عن مخاوفهم، قائلين: “أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ، الصَّلاةَ والصِّيامَ والْجِهادَ والصَّدَقَةَ، ولكن قد أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِه الآيَةُ ولا نُطِيقُها”. لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حثهم على قبول الأمر الإلهي فقال: “أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولوا كما قالَ أهْلُ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِكُمْ سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بَلْ قُولوا: سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ”، فامتثل الصحابة لما قاله الرسول، فاستجاب الله -تعالى- لهم، وأنزل هاتين الآيتين لتكونا بدلًا عن الآية السابقة.
المعنى الإجمالي للآيتين
يوضح الله -تعالى- أن الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- آمن وصدّق بما أوحى الله إليه، بما في ذلك القرآن الكريم وآياته وأحكامه وأوامره. وقد تمثل إيمان المؤمنين في تصديقهم وتقبلهم لهذا الوحي، كما يفعل الرسول.
وفي قوله: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ) تتبلور أصول الإيمان التي يُطالب بها العباد، والتي تتضمن الإيمان بالله ووحدانيته، وملائكته، والكتب السماوية، والرسل، حيث لا تمييز بينهم، فكلهم يدعون إلى توحيد الله وعبادته.
بعد ذلك، يؤكد الله -تعالى- أن المؤمنين استجابوا لأوامره بلا تردد. كما طلبوا المغفرة، عاقدين النية على طاعته. وقد قدمت لهم بشارات من الله بالرأفة والرحمة، حيث عفا عنهم عن ما يخفيه صدورهم. ثم وضع الله -سبحانه وتعالى- دعاءً خاصًا وكيفية التواصل معه، مما يعتبر مفخرة للمؤمنين.
فضل هاتين الآيتين
تعتبر هاتين الآيتين من الآيات الجليلة ومنزلة رفيعة عند الله. كما ورد في حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، أن جبريل -عليه السلام- قال: “هذا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليومَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَومَ.”. وقد بشّر بفضل هاتين الآيتين وأكد أن من يتلوهما يُعطى الجزاء من الله.
كما ورد في حديث عقبة بن عمرو -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: “الآيَتانِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مَن قَرَأَهُما في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ”.