حق تقرير المصير
تقرير المصير، المعروف بالإنجليزية بـ Self-determination، يُشير إلى قدرة الأفراد أو سلطتهم على اتخاذ القرارات المتعلقة بمستقبلهم وطرق حكمهم. يُعتبر هذا الحق أساسياً في مفهوم الهوية الوطنية، حيث يتمتع الشعوب بالقدرة على تشكيل حكوماتهم واختيار نظم الحكم التي تتناسب مع تطلعاتهم. يُعرَّف تقرير المصير بأنه حق الشعوب في تحديد مصيرها والمسار السياسي الذي تراه مناسباً، بعيداً عن أي إكراه أو ضغط خارجي، ويشمل هذا الحق تشكيل الحكومات واختيار نماذج الحكم، سواء من خلال الاندماج مع كيانات سياسية أخرى أو الحفاظ على الاستقلال.
نشأة مفهوم تقرير المصير
ظهر مفهوم تقرير المصير في القرن التاسع عشر، تزامناً مع تصاعد الهُوية الوطنية. خلال تلك الفترة، بدأت شعوب أوروبا في المطالبة بحقوقها، وكان ذلك نتيجة للثورتين الأمريكية والفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اللتين عبّرتا عن إرادة الشعوب في تقرير مصيرها. كان لمفهوم تقرير المصير دور كبير في ظهور فكرة الدولة الوطنية كنمط إدارة شائع في بداية القرن العشرين، حيث نمت هذه الدول بناءً على التجانس اللغوي أو العرقي.
أصبح مفهوم المساواة محوراً رئيسياً في الهياكل السياسية والأخلاقية الخاصة بالدول، بحيث اعتُبرت معياراً مهماً للحكم العادل. كما تسببت التحولات الناتجة عن الاستعمار والهجرات في تداخل الأعراق والثقافات، مما أعطى دعماً كبيراً لحقوق تقرير المصير من خلال الحركات التحررية التي نشأت في المستعمرات الأوروبية، خصوصاً في آسيا وأفريقيا، والتي لطالما نادت بحقوق جماعاتها، سواء كانت لغوية أو عرقية، لتحقيق كيانات سياسية مستقلة على غرار الدول الأوروبية والأمريكية.
آثار حق تقرير المصير
على الرغم من الحرب العالمية الأولى، حيث آنذاك تم الاعتراف بحق تقرير المصير كهدف للسلام من قبل الحلفاء في إطار النقاط الأربع عشرة التي اقترحها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، فإن أهمية هذا الحق اكتسبت زخماً أكبر بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أصبح حق تقرير المصير من الأهداف الأساسية للأمم المتحدة، حيث يُعتبر حقاً أساسياً من حقوق الإنسان. يتيح هذا الحق للشعوب تحديد مستقبلها وتحقيق تكاملها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
كما يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتحقيق استقلالها الذاتي في الشؤون الداخلية. وبالتالي، ينبغي على الحكومات استشارة الشعوب بخصوص القرارات التي تؤثر على حقوقهم، والتعاون معهم في تنفيذ التشريعات والقرارات ذات الصلة. وقد تمت الإشارة إلى أن الامتثال لحق تقرير المصير يشكل ضرورة لحماية الحقوق الأخرى كما أنه يعزز العلاقات الودية بين الدول.
الحركات التحررية والانفصالية
تزامنت حركات التحرر مع ظهور حق تقرير المصير، حيث أصبحت هذه الحركات تحمل سنداً شرعياً في نضالها ضد الاستعمار الغربي. شهدت النصف الثاني من القرن العشرين ازدهار العديد من هذه الحركات، خصوصاً خلال خمسينيات وستينيات القرن المنصرم. رغم أن مفهوم تقرير المصير لم يكن في البداية مرتبطاً بالتحرر السياسي، إلا أنه أصبح لاحقاً متصلاً بشكل وثيق به، مما ساعد العديد من الشعوب، خصوصاً تلك في دول العالم الثالث، على إقامة دولها الخاصة والتحرر من الاستعمار.
ومع ذلك، وجدت حركات التحرر التي نالت استقلالها أنها تواجه تحديات جديدة من حركات تمرد أخرى، تطالب أيضاً بحق تقرير المصير، لكنها كانت تُصنَّف كمعادية وتفتقر إلى الاهتمام الحقيقي بمصالح الجماعات العرقية أو اللغوية. فرغم أن حق تقرير المصير يعد حقاً مشروعاً، إلا أنه أُستخدم أحياناً كغطاء لمصالح سياسية، مما صعّب في التمييز بين الحركات الانفصالية المشروعة وتلك التي تحمل أجندات خارجية مثلما عُرف في حالات الحرب الباردة وتمرد الكونغو الديمقراطية، حيث شهدت إقليم كاتنغا في عام 1963 مدعومة من قوى خارجية تهدف للإضرار بالنظام الوطني تحت قيادة باتريس لومومبا.