تفسير سورة البروج في ظلال القرآن
سورة البروج تعد من السور المكية، حيث نزلت بعد سورة “الشمس” وقبل سورة “التين”. تعرف أيضًا بسورة “السماء ذات البروج”، وتشتمل على اثنين وعشرين آية. قام سيد قطب، مؤلف تفسير “في ظلال القرآن”، بتقسيم السورة إلى مقاطع متعددة وقدم تفسيرًا شاملًا كما يلي:
من قوله -تعالى-: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) إلى قوله (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)
تفتتح السورة الكريمة بالقسم بالبروج، والتي قد تشير إما إلى الكواكب الضخمة أو إلى المنازل التي تسكنها. يتبع ذلك قسم الله -عز وجل- باليوم الموعود، وهو يوم القيامة، الذي وعد الله بقدومه. يمهل المتخاصمين حتى ذلك اليوم ليحكم بينهم. يتحدث الله أيضًا عن الأعمال والخلائق التي ستكون تحت الحساب، والتي ستشهد هذا اليوم الهائل. يُعد هذا القسم بمضامينه العميقة دلالة على أهمية الحدث الذي يجري الحديث عنه، وهو حادثة أصحاب الأخدود، مما يضع هذه الواقعة في إطار أشمل يتجاوز الأحداث الدنيوية إلى ما بعد الحياة.
من قوله -تعالى-: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) إلى قوله (وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
بعد تلك الأجواء المشحونة، تبدأ الإشارة إلى تلك الحادثة بالإعلان عن نقمة الله -عز وجل- على الفعل الشنيع وفاعليه. يوضح المقصود بالأخدود، وهو الشق في الأرض الذي أضرم فيه المجرمون النار، ويعلن الله عن غضبه عليهم وهم يشاهدون الاحتراق اللذيذ للمؤمنين. وللمؤمنين، لا يُلصق بهم أي عيب سوى إيمانهم بالله، الجبار والقادر على كل شيء، والذي يملك السماوات والأرض. يشهد الله على هذه الحادثة الأليمة كنوع من التسلية لقلوب المؤمنين، وتحذير صارم للمجرمين.
هذا الحدث يُظهر قوة الإيمان في نفوس هؤلاء المؤمنين، حيث يضحون بأجسادهم أمام النيران، دون أن يتراجعوا عن عقيدتهم. لقد أظهر هؤلاء حرية عجيبة، لم تستطع جبروت الطغاة أن تطأها، مما يُعد مكسبًا روحانيًا لهم في الدنيا والآخرة، وهو أيضًا مكسبٌ عظيمٌ للبشرية جمعاء.
من قوله -تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) إلى قوله (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)
القصة لم تنتهِ في الدنيا، فأولئك المجرمين الذين استمروا في ضلالهم سيتلقون عذاب جهنم، إذ إن نيرانهم في الآخرة مختلفة تمامًا عن ما فعلوه في الدنيا. ومع ذلك، فإن المؤمنين سيجدون في الآخرة نعيمًا خالدًا وفوزًا عظيمًا، وهكذا تختتم القصة وتنكشف كافة فصولها. تناولت هذه السورة رسالة إلى المستضعفين في مكة والى كل ذي عقيدة في مرحلة الاضطهاد.
من قوله -تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) إلى نهاية السورة
يختتم الله -تعالى- السورة بتعقيبات تتناسب مع الموضوع، مشيرًا إلى بعض صفاته العظيمة التي غفل عنها الكافرون. يُبرز بطشه الشديد مقابل بطش الظالمين الضعيف. يتحدث عن قدرته في الخلق والإحياء والإماتة. كما يذكر رحمة الله الواسعة التي تشمل التوبة والصفح عن المذنبين، حتى لو ارتكبوا مثل ما فعل أصحاب الأخدود. الله ودود ورؤوف بعباده المخلصين، وهو عظيمٌ ومطلق الإرادة. إن أراد نصر المؤمنين وكسر المتجبرين فعل ذلك، ثم يضرب مثالاً على سلطانه في إهلاك الظالمين، كما حدث لقوم ثمود وقوم فرعون عندما عصوا وطغوا. وهذا يمثل تهديدًا للكافرين الذين يظنون أن الله -عز وجل- بعيدٌ عنهم. في الختام، يُبين الله طبيعة القرآن العالية والثابتة، ويشير إلى أن قوله هو الحق واليقين، وهو ما أثبته في حادثة الأخدود.