المقدمة: قلبٌ صافي كصفاء الماء
انتقلتُ مع أسرتي إلى حيٍ جديد حيث كان يقطن هناك رجل يبلغ من العمر خمسين عامًا، يُدعى (ريمون). كان يتمتع بوجهٍ يعبر عن براءة الطفولة، وبدا وكأنه يحمل قلبًا نقيًا كصفاء الماء. كنتُ أراه دائمًا مبتسمًا لي كلما مررتُ بجوار منزله. لكن، بناءً على نصيحة والدتي التي حذرتني من التحدث إلى الغرباء، كنت أحرص على تجاهل ابتسامته وأسرع في الذهاب لقضاء حاجتي. ومع ذلك، عند عودتي إلى المنزل، كنتُ أعتاد المرور بجانب بيته مرة أخرى، مما يجعلني أراقب وجهه خِلسة، حتى لا يبتسم لي مرة أخرى.
العرض: صاحب الخطوات الواثقة
لم أكن أعرف الكثير عن ريمون سوى أنه يعيش بمفرده في ذلك المنزل الكبير. كثيرًا ما كنتُ أتساءل كيف يتدبر أمره في الطعام والغسيل وتنظيف المنزل. في إحدى المرات، رأيته نهض من كرسيه الخشبي قرب الباب متجهًا إلى حديقة منزله، وكان الوقت غروبًا. ما أثار قلقي أنني لاحظت ندبة كبيرة على جسده، وكان يسير بصعوبة رغم ثقته في خطواته. لذا، أطلقتُ عليه لقب “صاحب الخطوات الواثقة”.
في مناسبة أخرى، رافقتُ والدي ورأيتُ تجمعًا كبيرًا من رجال الحي حول منزله، وكانوا يأمرون بعضهم. شعرت بالقلق عندما سمعت كلمات مثل “ساعدني” و”امسك كتفي”. لذلك، تمالكت نفسي وطلبتُ من والدي أن نذهب لنرى ما يحدث. وصلنا إلى المكان لنجد ريمون ملقى على الأرض دون حراك، فطلب الرجال الإسعاف بعدما عجزوا عن حمله. جاءت سيارة الإسعاف وأخذته بعيدًا، بينما عدنا نحن إلى مشاغلنا.
في اليوم التالي، قررت أن من واجبنا زيارة “صاحب الخطوات الواثقة” للاطمئنان عليه، خاصةً أنني لم أره يستقبل أي زائر من قبل. وافق والدي وأخذنا بعض الأطعمة والعصائر، وعندما طرقنا الباب، سمعنا صوتًا ضعيفًا يأتي من الداخل يقول “تفضل”. حالما دخلنا، كان المنزل كبيرًا ولكنه مغطى بالغبار في كل زاوية. بدا وكأن له تاريخًا غنيًا، لكنني لم أستطع أن أفكر طويلاً في حاله، حيث انتزعني نهج تفكيري عندما صافحني ريمون. أحسستُ برعشة في يدي عند رؤية نظرة الدفء والحنان في عينيه.
قال لي ريمون بابتسامة: “أخيرًا زُرتَني يا عبد الله!”، وأحسست بالدهشة عندما أدركت أنه يعرف اسمي. استمر في حديثه، شاكراً والدي على تربيته لي بأخلاق نبيلة. أردف ريمون، مشيدًا بأخلاقيات أبنائه الذين كانوا يسخرون منه إلا أنا، مما زاد من فضولي لرؤية كيف يعيش.
قدّمنا له الطعام وجلست للاستماع إلى قصته، وكنا متأثرين للغاية بتفاصيلها المؤلمة. عُدت إلى المنزل في المساء، وبدأت أصف لأمي صديقي الجديد، مبرزًا مشيته الواثقة وهدوؤه، وكم كانت ابتسامته رائعة على الرغم من ملامح الحزن التي تغلف وجهه. أعجبت أمي بوصفه، وسألتني إن كان غير متعلم. لكن والدي أخبرني بحماسة أنه أستاذ سابق في الجامعة، وأكد لي أنه لا ينبغي الحكم على الناس من شكلهم فقط.
ذهبت للنوم عازمًا على زيارة ريمون في اليوم التالي. وعندما وصلت، وجدته جالسًا على كرسيه المتواضع مع مجموعة من الأطفال. في البداية، اعتقدت أنهم يزورونه، لكن سرعان ما تأكدت من أنهم كانوا يثيرون غضبه. شعرت بالاستياء وركضت خلفهم حتى ابتعدوا، وعدت إليه وهو يكاد يبكي. شكرني على ما فعلت ودعاني للدخول.
استمر في سرد قصته، فأخبرني أنه أستاذ جامعي تخلت عنه زوجته بسبب مرضه، وأخذت كل ممتلكاته، ما تبقى له سوى هذا المنزل. ثم قال لي إنه بحاجة إلى مساعدة لأنه يواجه براءة أولاد الحي الذين يزعجونه يوميًا. سألته عن عائلته، وأجاب بدموع في صوته بأنهم يزورونه مرة واحدة في الشهر فقط لتسديد الفواتير.
شعرت بالأسف لأجله، وقلت له إنه نموذج للصبر. كان صاحب حكمة، حيث علمني دروسًا في الحياة، وحدثني عن كيفية الصفح. قال إن كل ليلة قبل النوم، يقوم بمراجعة أحداث اليوم ويغفر لكل من آذاه.
الخاتمة: جوهره الثابت يعمق الود بيننا
إنه رجل حكيم تعلمت منه الكثير، فجوهره الثابت زاد من عمق الود بيننا، وكلماته ستبقى خالدة في ذهني. لقد تحلّى ريمون بقلبي عمقًا لم أشعر به مع أي شخص آخر في حياتي. ومع حالة مرضه المتدهورة، كان تأثيره على قلبي يتزايد. لم يمضِ عامٌ حتى توفي ذلك الصديق، تاركًا وراءه فراغًا كبيرًا في قلبي. وكلما مررتُ بجوار منزله، أتذكر كيف كان يُلوّح لي ويبتسم بوداعه. وداعًا يا صديقي ريمون!.
قد تجد هذا المقال مفيدًا: كيفية كتابة نص وصفي.