تحليل قصيدة “سيربرس” في مدينة بابل

مقاربة سيميائية لعنوان قصيدة سريبرس في بابل

يعتبر العنوان في الدراسة السيميائية عنصرًا محوريًا، حيث يساهم في تكثيف الدلالة وفتح باب النص لفهم محتواه وإدراك اتجاهاته. القارئ الذكي يستطيع استنتاج الكثير من خلال تأمله في عنوان مادة معينة. في قصيدة “سريبرس في بابل”، يمكننا إجراء تحليل شامل للعنوان من حيث البنية السطحية والعميقة.

 

على الصعيد اللغوي (البنية السطحية)، ابتدأ بدر شاكر السياب عنوان قصيدته باسم “سريبرس”، والذي يُعَدُّ جملة اسمية. ربما اختار السياب هذا النوع من الجمل نظرًا لثباتها مقارنة بالجمل الفعلية. وقد أضاف تشبيهًا باستخدام شبه الجملة “في بابل”.

تشكل شبه الجملة خبرًا، ويُمكن اعتبار “في” ظرفية مكانية تكملها “بابل” التي تشير إلى بلده العراق، مما يجعل الخبر يُفهم على أنه “سريبرس كائن أو موجود في بابل”. من الملاحظ أن السياب ركز على “سريبرس” بوصفه جوهر موضوع القصيدة، وذلك من خلال تحقيق ترتيب منطقي للجملة الاسمية.

 

أما على المستوى الدلالي، فإن “سريبرس” يشير إلى أسطورة يونانية قديمة، تتمثل في كلب حراسة ذو ثلاثة رؤوس يحرس باب العالم السفلي، المعروف بمثوى الأموات، ويُعرف بوحشيته. يتكون شعر عنقه من أفاعي، مما يثير خيال القارئ ويدفعه للتفكير في الأمور الوحشية كالدمار والموت. ثم يأتي ذكر “في بابل”.

يُفاجأ القارئ من اجتماع هذين العنصرين، حيث تمثل بابل مدينة الحضارة والقوة، وفي الوقت ذاته تشير إلى “سريبرس”، مما يوحي بآثار الدمار التي أصابت بابل “العراق”. هذه التباينات تستحضر العديد من الأسئلة حول ما آلت إليه بابل ومن كان سببا في خرابها، مما يثير تساؤلات وتأملات عميقة في نفس القارئ.

“ربما في هذا العنوان، إشارة إلى الخراب الذي شهدته المنطقة العربية بين اتفاقية سايكس – بيكو والنكبة الفلسطينية، مما عمق شعور الدمار. بعد زرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، أصبح هذا الكيان الدموي يمثل قوى الشر والتدمير، متمثلاً في سلوك “سريبرس” الذي دمر الأخضر واليابس.”

 

التحليل الموضوعي لقصيدة سريبرس في بابل

ركز بدر شاكر السياب في هذه القصيدة على الصراع الملحمي بين قوى الخير والشر، حيث يرمز “سريبرس” إلى الشر والدمار مع إشارة واضحة للغرب وما خلفه من دمار في الوطن العربي، وخاصة في العراق. بينما تمثل تموز وعشتار آلهة الخصب والخير وعلامة على الحياة الجديدة التي يسعى السياب لجعلها واقعًا بعيدًا عن الحروب.

 

تبدأ القصيدة بوصف الدمار الذي شهدته بابل، مشيرًا بشكل خاص للحضور الصهيوني المحتل وما تبعه من حروب نعمت بها هذه الأراضي، مما أدى إلى موت الأطفال وتدمير المزارع، لتصبح العراق بلدًا محطماً يزخر بالحزن. بعد ذلك يتناول وحشية “سريبرس” وكيف أُعدم تموز إله الحياة بوحشية، في دلالة على قتل الزرع وتحويل الأراضي الخضراء إلى صحراء قاحلة لا تحتوي على أي صورة للحياة، ليأتي بعد ذلك كفاح السياب لاستعادة تموز لتعود الحياة إلى بابل.

تتجلى آمال السياب في عشتار وهي تجمع أشلاء تموز، محاولًة إحياء الأرض، بينما يسيل دم جديد في الصراع المأساوي، وفي ختام القصيدة يرسم صورة للتفاؤل بعودة النور والانتصار لقوى الخير على قوى الشر، وبذلك تتجلى آماله في بعث الحياة من جديد لبابل.

الرموز في قصيدة سريبرس في بابل

أعطى السياب أهمية كبيرة للرموز ليعبر عن المعاني المرادة في قصيدته ويمكن توضيحها فيما يلي:

الرمز الأسطوري في قصيدة سريبرس في بابل

تميز السياب باستخدام الرمز بشكل عام للإشارة إلى معانٍ تفوق المعاني الحرفية، خصوصًا في استخدام رمز الماء بكثرة، حيث ارتبط الماء بعدة دلالات في القصيدة.

فقد أشار الماء في بعض المواضع إلى العطاء والحياة والأمل، وفي أحيان أخرى تمثل الثورة والتغيير، كما في قوله “لو ينتضي الحسامَ، لو يفجِّر الرعود والبروق والمطر”، وفي بعض المواضع الأخرى دلت على الموت وطمر الحياة في مشهد السيول كرمز للأمل.

الرمز الطبيعي في قصيدة سريبرس في بابل

استعمل السياب رموز الأساطير مثل أسطورة الإله تموز، الذي يمثل إله الخصب والزرع حين قال “تموزنا الطحين”، مما يعكس معالم الحياة في “بابل” العراق.

ويسلط الضوء على “سريبرس”، ذلك الكلب ذو الرؤوس الثلاثة، كرمز لقوى الشر والدمار، وهو إشارة واضحة إلى القوى الغربية التي خلفت دمارًا في العراق والدول العربية.

 

الرمز المكاني في قصيدة سريبرس في بابل

بابل، كواحدة من أبرز حضارات العالم القديمة، تحمل معنى خاصًا في القصيدة. إن اجتماع “سريبرس” مع بابل، التي تمثل الحضارة العريقة، يكشف لنا قسوة الأحداث وما عاشته بابل من تدمير، مما يعكس في قلب الشاعر حزنًا عميقًا على الماضي المجيد الذي تحطم.

بإشارتنا للأساطير في الشعر، نجد أن الأسطورة ليست مجرد فكريات، بل مزيج يندمج فيه السحر والدين والتاريخ، مما يعكس جوانب من الوجدان الانساني، وهو ما يعبر عنه السياب في قصيدته.

البنية البلاغية في قصيدة سريبرس في بابل

لم يقتصر السياب على الرموز بل استخدم الأساليب البلاغية مثل الاستعارة والكناية، مما أضاف غموضًا وتجديدًا للنص. يبدأ السياب قصيدته باستعارة “ليعوِ سريبرس”، حيث يشير إلى صراخ هذا الكلب المتوحش بشكل يعكس رعبه.

كما شبه بابل بالمرأة المحطمة، وهذا التشبيه يعكس العلاقة الوثيقة بين الشاعر ووطنه، إذ يملأه شعور الحزن والشفقة تجاه ما آل إليه حال الطرفين. وصف “سريبرس” بعينين يشتعل فيهما وهج البركان يعبّر أيضًا عن حالة الرعب والدمار، مما يخلق تصورًا مأساويًا ينقل القارئ إلى عالم معبّر.

إن الاستعارات المستخدمة لا تُبرز الجمالية فحسب، بل تزيد من تفاعل القارئ مع معاني النص وأحاسيسه، مما يجعل القراءة تجربة غنية.

البنية الإيقاعية في قصيدة سريبرس في بابل

يشير شكري محمد عياد إلى أن الإيقاع جزء أساسي من بنية الشعر منذ نشأته، حيث أن الشعر مرتبط بالغناء. يمكن تصنيف الإيقاع إلى خارجي وداخلي.

في هذه القصيدة، قام السياب بتجديد نمطه، حيث نظمها وفق نظام شعر التفعيلة، مع اختيار التفعيلة “مستفعلن” وتنوّع القافية، مستخدمًا زحافات متعددة داخل القصيدة.

أما الإيقاع الداخلي فيتجلى من خلال التكرار والجناس والتوازي، حيث يستخدم السياب تكرار الحروف والكلمات، مثل “ن، ر، ق، م”، بالإضافة إلى تكرار بعض العبارات. هذه الأساليب تعكس مأساة بابل وجروح الوطن العربي.

القصيدة لا تمثل مأساة بابل وحسب، بل تعكس جرحًا عربيًا معمقًا، موصلة إحساس المعاناة من بابل إلى باقي دول الوطن العربي.

Scroll to Top