تحليل نص المقامة القردية: دراسة فنية وأدبية

تحليل مُفصل للمقامة القردية

كُتبت المقامة القردية بواسطة الكاتب أحمد بن الحسين بن يحيى همذاني، والذي يُعرف بلقب أبي الفضل. وُلِد في عام 358هـ/969م وتوفي في عام 398هـ/1008م. يُعتبر الهمذاني هو أول من قدم أعمالا أدبية في فن المقامات. أثرى هذا الفن بمؤلفاته، وقد اتبعه لاحقًا العديد من الكتّاب مثل الحريري الذي كتب على نفس نمط مقامات الهمذاني.

تدور أحداث المقامة القردية حول شخصيتين رئيسيتين: عيسى بن هشام وأبو الفتح الإسكندراني. بينما كان عيسى بن هشام يتجول في بغداد بعد عودته من موسم الحج، عثر على مجموعة من الرجال يتجمعون حول شيء ما، وكانت أصواتهم مليئة بالضحك والقهقهة كما لو أنهم يشاهدون شيئًا ممتعًا.

قرر عيسى بن هشام أن يستفسر عن السبب وراء تجمعهم وضحكهم، فبذل جهدًا كبيرًا لتجاوز الحشود الكثيفة حتى تمكن من الوقوف في مكان يسمح له برؤية ما يجري داخل هذه الحلقة.

وعندما نظر، اكتشف أن رجلًا كان يُرقص قردًا أمام الجمهور، مما أحدث ضحك الحضور. انضم عيسى بن هشام إلى من يرقصون مقلدًا القرد، وعندما انتهت الرقصة وتفرّق الناس، قرر أن يستطلع من هو الرجل الذي كان يُرقص القرد، ليكتشف أنه أبو الفتح.

استفسر عيسى بن هشام عن دواعي تصرفه هذا وما إذا كان يرغب في الاستخفاف بالعقول، فرد أبو الفتح بشعرٍ مفاده أنه لم يجد وسيلة لكسب الرزق إلا بهذه الطريقة!

التحليل الفني للمقامة القردية

تتضمن المقامة القردية مجموعة من الشواهد البلاغية المختلفة التي تعكس فن البيان والبديع، ومن أبرز ما ورد فيها:

  • وقد كَساني الدَّهشُ حُلَّتَه

يقصد الدّهش هنا العَجَب، وقد شبه الهمذاني الذهول بإنسان يرتدي ثوبًا يُظهر آثار الدهشة، وهي صورة بلاغية تعبر عن تعجب الكاتب وتأثره.

  • حتى افترشتُ لحيةَ رجلَين

تستخدم هذه العبارة للتعبير عن شدة الزحام في المكان، حيث يجلس بين رجلين عن يمينه وشماله، وكأنه يجلس على لحيتهما بسبب ضيق المجلس.

  • يَلوي الطّرب أعناقَهم

يشبه الكاتب الطرب بشخص يستدير بعنق أحدهم، وهذا تعبير مجازي عن تأثير الطرب الشديد الذي يُحرك النفوس كما يفعل السحر.

  • ساقَني الحِرصُ إلى ما ساقَهم

هنا يُشبه الكاتب الحِرص بشخص يقود الناس إلى مآلات مشابهة، وهو تعبير مجازي عن شدة الحرص والانتباه.

  • فرقصتُ رقصَ المُحَرَّج

يشبه الكاتب نفسه بالكلب المحرّج، كنايةً عن حركته المترددة وهو يحاول أن ينظر إلى المشهد من بين الزحام.

نص المقامة القردية

يقول الهمذاني في المقامة القردية:

“حَدَّثنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: بَيْنَا أَنا بِمَديِنَةِ السَّلامِ، قَافِلاً مِنَ البَلَدِ الحَرَامِ، أَمِيسُ مَيْسَ الرِّجْلَةِ، على شاطئِ الدِّجْلَةِ، أَتَأَمَّلُ تِلْكَ الطَّرَائِفَ، وَأَتَقَصَّى تِلْكَ الزَّخَارِفَ، إِذْ انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةِ رِجَالٍ مُزْدَحِمِينَ يَلْوي الطَّرَبُ أَعْنَاقَهُمْ، وَيَشَّقُ الضَحِكُ أَشْداقَهُمْ، فَسَاقَنِي الحِرصُ إِلى مَا ساقَهُمْ، حَتَّى وَقَفْتُ بِمَسْمَعِ صَوتِ رَجُلٍ دُونَ مَرأَيَ وَجْهِهِ لِشِدَّةِ الهَجْمَةِ وَفَرْطِ الزَّحْمَةِ”.

“فَإِذَا هُوَ قَرَّادٌ يُرْقِصُ قِرْدَهُ، وَيُضْحِكُ مَنْ عِنْدَهُ، فَرقَصْتُ رَقْصَ المُحَرَّجِ، وَسِرتُ سَيْرَ الأَعْرَجِ، فَوْقَ رِقَابِ النَّاسِ يَلْفِظُنِي عَاتِقُ هَذا لِسُرَّةِ ذَاكَ، حَتَّى افْتَرَشْتُ لِحَيَةَ رَجُلَيْنِ، وَقَعَدْتُ بَعْدَ الأيْنَ، وَقَدْ أَشْرَقَنِي الخَجَلُ بَرِيقهِ، وَأَرْهَقَنِي المَكانُ بِضِيِقِهِ”.

“فَلَمَّا فَرَغَ القَّرادُ مِن شُغْلِهِ، وانْتَفَضَ المَجْلِسُ عَنْ أَهْلِهِ، قُمْتُ وَقَدْ كَسَانِي الدَّهَشُ حُلَّتَهُ، وَوَقَفْتُ لأَرَى صُورَتَهُ، فَإِذا هُو واللهِ أَبو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلتُ: مَا هَذِهِ الدَّنَاءَةُ وَيْحَكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

الذَّنْبُ لِلْأَيَام لاَ لِي

فَاعْتِبْ عَلَي صَرْفِ اللَّيالِي

بِالحْمْقِ أَدْرَكْتُ المُنَى

وَرَفَلْتُ فِي حُلَلِ الجَمَالِ”

Scroll to Top