السبب الأول: العلاقة بالدين
يعتبر النظام الفلسفي ظاهرة تطورت بشكل مستقل في مراحل متعددة من الزمن، إلا أنه عادة ما يكون متصلاً بنظم دينية معينة. لجأ العديد من الأفراد إلى الفلسفة سعياً للحصول على إجابات عن التساؤلات التي تراودهم، والتي لم يتمكنوا من استيعابها ضمن الأطر الدينية التقليدية.
تعكس العصور القديمة وجود أسئلة غير معقولة وغير مجابة، وهو ما أدى إلى نشأة علوم الفلسفة. وقد استمر تطور الفلسفة بالتوازي مع الدين من العصور الوسطى وحتى عصرنا الحاضر، حيث اندمجت مع أنظمة ومعتقدات الديانات اليهودية والمسيحية في الغرب، بالإضافة للديانات الهندوسية والبوذية والإسلامية في الشرق.
السبب الثاني: الحاجة إلى طرح أسئلة فلسفية وإيجاد إجابات
تجدر الإشارة إلى أن كلمة “فلسفة” نشأت من تركيب يوناني قديم يتكون من “فيلو” بمعنى الحب و”صوفيا” بمعنى الحكمة، فباتت تعني “حب الحكمة”. وقد تم تناولها كدراسة تعنى بالأمور الأساسية والعميقة للوجود البشري. ورغم أن بداية الفلسفة لا تزال موضوع نقاش، إلا أن الأهم هو الأسئلة الأساسية التي أدت إلى نشوء الفلسفة كعلم، والدوافع وراء طرحها.
من بين الأسئلة الأساسية التي طرحت كانت: ما سبب وجود الإنسان؟ ما الهدف من حياته؟ وكيف ينبغي عليه أن يفهم معاني حياته؟ كانت الدوافع لا تقتصر على طرح الأسئلة، بل شملت أيضًا كيفية الإجابة عليها، مما ساهم في بروز الفلسفة كمجال دراسي. والفلسفة تعتبر وسيلة للتأمل والتفكير في العالم المحيط، وفي الكون والمجتمع. وغالبًا ما تكون الأفكار الفلسفية عامة ومجردة، وتتناول عدة قضايا منها:
- هل العالم موجود حقًا حول البشر؟
- ما هي الفلسفة؟
- ما هو العلم؟
- ما هو الجمال؟
- ما هو الحب؟
- ما هي الحقيقة؟
- هل يمتلك البشر إرادة حرة؟
- ما هو الشر؟
- ما هو الإنسان؟
- ما العلاقة بين العقل والجسد؟
- ما هو الجيد والسيئ؟
وبذلك، يمكن القول إن الفلسفة توفر إجابات على التساؤلات الوجودية التي تطرحها الإنسانية، مما يُعِين الأفراد على فهم كيفية التفاعل مع المجتمع المحيط بهم.
عوامل ظهور الأنظمة والمدارس الفلسفية المتنوعة
شهد النظام الف فلسفي تطورًا ملحوظًا على مر آلاف السنين، حيث زادت إجابات الأسئلة الوجودية. وقد سعت الفلسفات المتزايدة إلى توضيح الأسئلة الفلسفية بشكل أعمق أو تغييرها بنماذج وإجابات جديدة. تختلف العوامل المحفزة لظهور الفلسفة حسب كل منطقة من مناطق العالم، ومن بينها:
عوامل ظهور الفلسفة في مصر وبلاد ما بين النهرين
ظهرت أقدم الأنظمة الفلسفية في مصر، وكان ذلك متوازيًا مع الرؤى الدينية عن الجنة بعد الموت. السؤال الفلسفي الذي تناولته الثقافة المصرية هو كيفية عيش الإنسان لضمان مكان في الجنة. تشير الرسوم والنقوش المكتشفة في القبور، التي يعود تاريخها إلى نحو 4000 قبل الميلاد، إلى هذا الفكر. كما تناول المصريون أسئلة حول طبيعة الإله، الروح، مفهوم الخلود، وإمكانية التناسخ.
بعد مصر، برزت الفلسفة في بلاد ما بين النهرين، حيث فهم الناس طبيعة وجودهم كزملاء عمل مع الآلهة. ومع انتشار الأنظمة الدينية، نشأت فكرة أن الآلهة تتبادل العمل مع البشر. لكن مع مرور الوقت، بدأ الناس يشككون في هذه الفكرة، وهو ما يتضح في ملحمة جلجامش، حيث كان الملك جلجامش يتساءل عن علاقته بالآلهة بعد فقدان صديقه إنكيدو، مما دفعه للبحث عن إجابات لم يكن للمعتقدات الدينية القدرة على تقديمها.
عوامل ظهور الفلسفة في الهند
ازدهرت الفلسفة في الهند كرد فعل على الفيدا، وهي الكتب المقدسة للهندوسية، وظهرت الأوبنشاد كأحد أقدم النصوص المكتوبة في الفترة ما بين 500-800 قبل الميلاد. ومع ظهور العديد من الفلاسفة والمدارس الفلسفية، تشكلت حركة إصلاح اجتماعي وديني رافضة للهندوسية الحديثة المعروفة باسم الهندوسية الأرثوذكسية.
كانت من أبرز المدارس الفلسفية المدرسة المادية التي نشأت حوالي عام 600 قبل الميلاد، بالإضافة إلى المدرسة اليانية (599-527 قبل الميلاد) وديانة البوذية التي أسسها سيدهارتا غوتاما (بوذا) ما بين 563-483 قبل الميلاد. ومع مرور الزمن، تحولت اليانية والبوذية إلى ديانات في العصور اللاحقة، رغم أنهما كانتا تهدفان في الأصل إلى تناول الجوانب الفلسفية.
تعد الترانيم الفيدية، التي تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، من أقدم النصوص الهندية التي تعكس كيفية تفكير العقل البشري عن الإله، وتتشكل الأساطير من خلال العمليات النفسية العميقة، وتتناول الأوبنشاد التأملات النظرية عن طبيعة الحياة والعقل والجسم البشري، إلى جانب الأخلاق والفلسفة الاجتماعية.
عوامل ظهور الفلسفة في بلاد فارس
تأسست الفلسفة في بلاد فارس عام 1500 قبل الميلاد، وكان لها رابطة وثيقة بالدين المهيمن في المنطقة، وهو الزردشتية. وقد صورت الزردشتية الكون كآلة للخالق الواحد، بمنافسية إلهة الشر والفوضى المعروف باسم أهرمان.
بدأت الأسئلة الفلسفية تتناول مسألة مصدر الشر والمعاناة في العالم، حيث سُجل أن أهرمان لم يكن شريرًا في بدايته. خلال فترة الإمبراطورية الأخمينية (550-330 قبل الميلاد)، ظهرت مدرسة الفلسفة التي تمثل أهورامزدا، إله الخير، مع اقتراح أفكار ودروس وجودية جديدة.
عوامل ظهور الفلسفة في الصين
أتت فترة الممالك المتحاربة في الصين محملة بالفوضى، خلال هذه الحقبة، تم تطوير الفلسفة الصينية على يد الحكيم كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد). في بدايتها، كانت الكونفوشيوسية عبارة عن مدرسة فكرية، ولكنها تطورت مع مرور الزمن إلى مدرسة فلسفية إلى جانب الطاوية التي أسسها لاو في عام 500 قبل الميلاد، والمدرسة القانونية التي أسسها هان فيزي ما بين (280-233 قبل الميلاد).
على الرغم من الاختلافات بين هذه المدارس، إلا أنه تم توحيدها حول هدف مشترك هو تعزيز النظام في زمن الفوضى من خلال نشر إجابات على الأسئلة الفلسفية التي تهدف إلى تعديل الاستقرار الاجتماعي والديني في المجتمع الصيني القديم.
عوامل ظهور الفلسفة في اليونان
تاريخ الفلسفة اليونانية يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، حيث بدأها الفيلسوف طاليس بسؤاله: “ما هي العناصر الأساسية في الكون؟”. وقد تأسست فلسفته باستخدام المفاهيم المستلهمة من فلسفتي بلاد ما بين النهرين ومصر، مما أدى إلى إنشاء مدرسة تُعرف بميلسيان. بلغت قمة الفكر الفلسفي بفضل أعمال أعظم فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو.
باختصار، يُظهر كل منطقة من مناطق ظهور الفلسفة تأثراً فريداً، فبينما يعتمد بعضها على الصور، يعتمد الآخر على النصوص القديمة والشعر والأساطير، بالإضافة إلى الأسئلة الوجودية التي يُبحث عن أجوبة لها.