سمات بناء القصيدة في العهد العباسي المبكر

خصوصية بناء القصيدة في العصر العباسي الأول

يعتبر العصر العباسي حقبة مفصلية في تطور الشعر العربي، حيث شهدت تلك الفترة تحولات جذرية في بنية القصيدة العربية. فقد اتجه الشاعر العربي نحو التجديد والإبداع بعد أن انتقلوا للعيش في المدن الكبيرة والحواضر، مما مكنهم من الابتعاد عن بيئة الصحراء القاسية التي ساهمت في تشكيل القصيدة العربية التقليدية، والتي اعتبرت من قبل بعض النقاد والشعراء قواعد لا يمكن تجاوزها.

شمل التجديد في العصر العباسي هيكلة القصيدة العربية التقليدية، التي كانت تفتقر للوحدة الموضوعية. إذ كانت القصيدة تتألف من مواضيع متعددة يتنقل بينها الشاعر حتى يصل إلى موضوعه الرئيسي، كما هو الحال في المدح والفخر والغزل والهجاء. لكن الرثاء كان استثناءً، حيث يتميز بطابعه العاطفي المكثف، مما يتيح للشعراء الخوض في الموضوع مباشرةً والإقامة عليه نتيجة لخصوصيته.

تميزت القصائد في العصر العباسي بالشكل والمحتوى؛ حيث اتخذت طابع الوحدة الموضوعية والفورية في التطرق للموضوعات. كما أن الشعراء استخدموا أساليب متنوعة للتعبير عن عواطفهم وقضاياهم الاجتماعية والسياسية.

التجديد في مطلع القصيدة العربية في العصر العباسي الأول

يمثل التجديد في مطلع القصيدة العربية إحدى السمات الرئيسية لبنية القصيدة في العصر العباسي، حيث تمرد الشعراء العباسيون على المقدمة الطللية. وتعزى هذه الثورة إلى التغيرات البيئية التي شهدتها المجتمعات العربية، إذ كان الطلل ينتمي إلى فضاء الصحراء، ولكن مع انتقال العرب إلى المدن، أصبحوا يعيشون حياة مستقرة، مما أسقط الحاجة إلى ذكر الأطلال.

برز كل من أبو نواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد كأهم الشعراء الذين تمردوا على المقدمة الطللية، حيث تعكس كتاباتهم توجهاتهم الشعوبية، والتي تعبر عن نفور الفرس من العرب ورغبتهم في إثبات فضلهم. فقد سخِروا من الشعر العربي التقليدي، خاصة من تلك البداية الطللية، كما يتضح في أشعار أبو نواس:

عاجَ الشَقِيُّ عَلى دارٍ يُسائِلُها

:::وَعُدتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ

لا يُرقِئُ اللَهُ عَينَي مَن بَكى حَجَراً

:::وَلا شَفى وَجدَ مَن يَصبو إِلى وَتَدِ

قالوا ذَكَرتَ دِيارَ الحَيِّ مِن أَسَدٍ

:::لا دَرَّ دَرُّكَ قُل لي مَن بَنو أَسَدِ

وَمَن تَميمٌ وَمَن قَيسٌ وَإِخوَتُهُم

:::لَيسَ الأَعاريبُ عِندَ اللَهِ مِن أَحَدِ

في هذه الأبيات، يتبنى الشاعر طابع المقدمة الخمرية، حيث يفضل الحديث عنها بدلاً من التأمل في الأطلال. كما يسخر من الشاعر الذي ينجرف في بكاء الأطلال، وينفي أن يكون للعرب مكانة عند الله، مما يعكس التغييرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها العصر العباسي الذي تم تبنيه فيه الانفتاح.

الوحدة الموضوعية في بنية القصيدة العباسية

تشكل الوحدة الموضوعية إحدى أبرز ميزات التجديد في بنية القصيدة العربية في العصر العباسي. فقد كانت القصائد التقليدية تتنوع فيها الموضوعات، حيث يبدأ الشاعر بتأمل الأطلال ويسترجع ذكريات المحبوبة، ثم ينتقل لوصف الرحلة وصعوباتها قبل الوصول للموضوع الرئيسي.

لكن خلال العصر العباسي، تغير هذا الاتجاه، إذ أصبح الشعراء يفضلون الاختصار والاحترافية في التعبير، مستغنين عن تعدد الموضوعات. يعود السبب في ذلك إلى التغيرات الثقافية والبيئية، كونهم لم يعودوا تسكنهم الصحراء أو يقتنون الإبل، بل كانوا في بيئة حضرية.

علاوة على ذلك، كان هناك رغبة ملحة لدى الشعراء في التعبير السريع عن مشاعرهم. كما أن الصراعات الفكرية والعقائدية دفعتهم إلى الدخول مباشرةً في مواضيعهم لتجنب الإطالات. كما يتضح في قول بشار بن برد:

إِبليسُ خَيرٌ مِن أَبيكُم آدَمٍ

:::فَتَنَبَّهوا يا مَعشَرَ الفُجّارِ

إِبليسُ مِن نارٍ وَآدَمُ طينَةٌ

:::وَالأَرضُ لا تَسمو سُمُوَّ النارِ

تظهر هذه الأبيات نزعة الشاعر الشعوبية، حيث يؤيد الفرس وعقيدتهم الكشف عن تلبيس وشرعية هذا الانتماء. إنه يُفضل النار وعبادتها، بل يمتدح إبليس على سيدنا آدم، مما يبرز ميله إلى الموضوع مباشرةً دون حاجة إلى مقدمات أو تفاصيل مطولة.

Scroll to Top