التحليل الموضوعي للقصيدة
تُعتبر قصيدة “السجينة” للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي واحدة من أبرز قصائده، وسنقوم بتحليلها كالتالي:
المقطع الأول
يقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
لَعَمرُكَ ما حُزني لِمالٍ فَقَدتَهُ
وَلا خانَ عَهدي في الحَياةِ حَبيبُ
وَلَكِنَّني أَبكي وَأَندُبُ زَهرَةً
جَناها وَلوعٌ بِالزُهورِ لَعوبُ
رَآها يَحُلُّ الفَجرُ عَقدَ جُفونِها
وَيُلقي عَلَيها تِبرَهُ فَيَذوبُ
وَيَنفُضُ عَن أَعطافِها النورَ لُؤلُؤاً
مِنَ الطَلِّ ما ضُمَّت عَلَيهِ جُيوبُ
فَعالَجَها حَتّى اِستَوَت في يَمينِهِ
وَعادَ إِلى مَغناهُ وَهوَ طَروبُ
وَشاءَ فَأَمسَت في الإِناءِ سَجينَةً
لِتَشبَعَ مِنها أَعيُنٌ وَقُلوبُ
يفتتح الشاعر قصيدته بالتحدث عن تلك الوردة التي رآها في أحد منازل أصدقائه، والتي كانت موجودة في إناء زجاجي. وقد انكسر قلبه جراء مشهدها، فبدأ يرثيها بقصيدة تحمل معاني حزنه. تلك الزهرة التي تلفت أنظار المارة بجمالها ورائحتها العطرة، إلا أن أحدهم قد قرر قطفها، مما جعلها سجينة لنزواته.
المقطع الثاني
ثَوَت بَينَ جُدرانٍ كَقَلبِ مُضيمِها
تَلَمَّسُ فيها مَنفَذاً فَتَخيبُ
فَلَيسَت تُحيي الشَمسَ عِندَ شُروقِها
وَلَيسَت تُحيي الشَمسَ حينَ تَغيبُ
وَمَن عُصِبَت عَيناهُ فَالوَقتُ كُلُّهُ
لَدَيهِ وَإِن لاحَ الصَباحُ غُروبُ
لَها الحُجرَةُ الحَسناءُ في القَصرِ إِنَّما
أَحَبُّ إِلَيها رَوضَةٌ وَكَثيب
وَأَجمَلَ مِن نورِ المَصابيحِ عِندَها
حَباحِبُ تَمضي في الدُجى وَتَؤوبُ
وَمِن فَتَياتِ القَصرِ يَرقُصنَ حَولَها
عَلى نَغَماتٍ كُلُّهُنَّ عَجيبُ
تُراقِصُ أَغصانُ الحَديقَةِ بِكرَةً
وَلِلريحِ فيها جَيئَةٌ وَذهوبُ
وَأَجمَلَ مِنهُنَّ الفَراشاتُ في الضُحى
لَها كَالأَماني سِكنَةٌ وَوُثوبُ
وَأَبهى مِنَ الديباجِ وَالخَزِّ عِندَها
فَراشٌ مِنَ العُشبِ الخَضيلِ رَطيبُ
وَأَحلى مِنَ السَقفِ المُزَخرَفِ بِالدُمى
فَضاءٌ تَشِعُّ الشُهبُ فيهِ رَحيبُ
تَحِنُّ إِلى مَرأى الغَديرِ وَصَوتِهِ
وَتَحرُمُ مِنهُ وَالغَديرُ قَريبُ
وَلَيسَ لَها لِلبُؤسِ في نَسَمِ الرُبى
نَصيبٌ وَلَم يَسكُن لَهُنَّ هُبوبُ
تُظهر تلك الزهرة حبيسة في القصر، ومع توافر متطلبات الترف، إلا أن ذلك لم يُغنِها عن شعورها بالانطواء. فالسجين لا ينعم بجدران سجنه، بينما تلك الزهرة تتعطش للمكوث قرب الغدير، مستمتعة بالخارج. كان ذلك موطنها الحقيقي، الذي حُرمت منه لتبقى محاطة بأجواء القصر الباردة ورقص النساء من حولها.
المقطع الثالث
إِذا سُقِيَت زادَت ذُبولاً كَأَنَّما
يَرُشُّ عَلَيها في المِياهِ لَهيبُ
وَكانَت قَليلُ الطَلِّ يُنعِشُ روحَها
وَكانَت بِمَيسورِ الشُعاعِ تَطيبُ
بِها مِن أُنوفِ الناشِقينَ تَوَعُّكٌ
وَمِن نَظَراتِ الفاسِقينَ نُدوبُ
تَمَشّى الضَنى فيها وَأَيارُ في الحِمى
وَجَفَّت وَسِربالُ الرَبيعِ قَشيبُ
فَفيها كَمَقطوعِ الوَريدَينِ صُفرَةٌ
وَفيها كَمِصباحِ البَخيلِ شُحوبُ
أَيا زَهرَةَ الوادي الكَئيبَةَ إِنَّني
حَزينٌ لِما صِرتِ إِلَيهِ كَئيبُ
وَأَكثَرَ خَوفي أَن تَظُنّي بَني الوَرى
سَواءً وَهُم مِثلُ النَباتِ ضُروبُ
تلك الزهرة التي قد تصبح كئيبة، رغم محاولات إحيائها بالماء، إلا أن الماء كُلما نُثر عليها زاد الأمر سوادًا، بحيث أصبح قلة الندى يؤذيها. كلما اقترب منها شخص ليُعجب بها، تُعاني أشد المعاناة. لقد بدأ جسمها يُظهر علامات التدهور، مما يُحزن الشاعر لما وصلت إليه، ويخشى أيضًا أن تصدق الزهرة ذنب بني البشر، فيُصبحوا هم أقرانها في محنتها.
المقطع الرابع
وَأَعظَمَ حُزني أَنَّ خَطبَكِ بَعدَهُ
مَصائِبُ شَتّى لَم تَقَع وَخُطوبُ
سَيَطرَحُكِ الإِنسانُ خارِجَ دارِهِ
إِذا لَم يَكُن فيكِ العَشِيَّةَ طيبُ
فَتُمسينَ لِلأَقذارِ فيكِ مَلاعِبٌ
وَفي صَفحَتَيكِ لِلنِعالِ ضُروبُ
إسارُكِ يا أُختَ الرَياحينِ مُفجَعٌ
وَمَوتُكِ يا بِنتَ الرَبيعِ رَهيبُ
وَلَكِنَّها الدُنيا وَلَكِنَّهُ القَضا
وَهَذا لَعَمري مِثلَ تِلكَ غَريبُ
فَكَم شَقِيَت في ذي الحَياةِ فَضائِلٌ
وَكَم نَعِمَت في ذي الحَياةِ عُيوبُ
وَكَم شِيَمٍ حَسناءَ عاشَت كَأَنَّها
مَساوِئٌ يُخشى شَرُّها وَذُنوبُ
بعد الانتهاء من استخدام تلك الزهرة، ستُلقى في القمامة، بعد أن جفّت ولم تعد تمنح سوى الذكرى، فيبدأ الشاعر بالتعبير عن ألم الفراق وما لقيته من محن. ولكن تلك هي حياة الدنيا، حيث تتلف المصائب كثيراً من الأحاسيس.
التحليل الفني للقصيدة
تنوعت الصور الفنية والمُحسنات البلاغية التي استخدمها الشاعر في قصيدته، مما ساعد على تجميل العبارات. وفيما يلي بعض من هذه الصور:
- وَيَنفُضُ عَن أَعطافِها النورَ لُؤلُؤاً
استخدم الشاعر استعارة مكنية، حيث شبه النور باللؤلؤ المنفصل عن الأكتاف، مما أضاف جمالًا للمعنى.
- فَلَيسَت تُحيي الشَمسَ عِندَ شُروقِها وَلَيسَت تُحيي الشَمسَ حينَ تَغيبُ
استعارة أخرى تقارن الوردة بالإنسان الذي يُحيي المناظر، حيث حُذفت المشابهات واحتُفظ بشيء من اللمسات اللغوية.
- رَآها يَحُلُّ الفَجرُ عَقدَ جُفونِها
مجاز حيث شبه الفجر بالإنسان الذي يحل الألغاز، مما أضفى عمقًا على المعاني المستخدمة.
- لِتَشبَعَ مِنها أَعيُنٌ وَقُلوبُ
استعارة مكنية تماثل فيها العيون والقلوب بالإنسان الذي يُشبع أحاسيسه.
- ثَوَت بَينَ جُدرانٍ كَقَلبِ مُضيمِها
تشبيه مجمل، حيث تم الاحتفاظ بالمشبه والمشبه به لكن مع حذف وجه الشبه.
التحليل الإيقاعي للقصيدة
كتب الشاعر إيليا أبو ماضي قصيدته على بحر الطويل، وهو “فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن”، ويُعتبر من البحور الشعرية الواسعة التي تتيح التحكم في النفس الشعري الطويل بشكل جيد.
تتميز القصيدة بوجود عدد كبير من الأحرف الساكنة والرقيقة مثل الحاء والنون واللام، مما يعكس شعور الحزن ويعبر عن المعاني المُؤلمة التي يُعاني منها الشاعر، في حين أن الحروف الانفجارية تدل على القوة والعزم.