تحليل جدارية محمود درويش
تعتبر القصيدة الجدارية من أبرز الأعمال الأدبية التي خلفها الشاعر محمود درويش. تمتد هذه القصيدة على نحو 100 صفحة، مما يجعلها واحدة من القصائد الطويلة، وقد خصص لها درويش ديوانًا منفصلًا بعنوان “جدارية محمود درويش”، حيث بدأ كتابتها في عام 1999.
قام محمود درويش بتقسيم قصيدته إلى 63 مقطعًا، وكتبها على وزن شعر التفعيلة باستخدام تفعيلتي المتقارب والكامل، مما أضفى تنوعًا على إيقاعها الشعري.
سيميائية العنوان في الجدارية
يُعتبر العنوان المدخل الأساسي لفهم النص الأدبي، فهو بمثابة الرأس للجسد؛ حيث يحمل دلالات غنية. يمثل عنوان “الجدارية” نقطة انطلاق تبني نظرة أولية عن النص، إذ أنه يحتوي على إشارات سيميائية معبرة عن بنية النص الكلية. كلمة “الجدارية” تُستمد من جذر “جدر”، وهي تشير إلى الحائط، وجمعها “جدران أو جدر”. عندما نربط العنوان بالنص، نجد أن الجدارية وردت في أربعة سياقات، حيث يقول درويش:
- “فلنذهب إلى أعلى الجداريات”.
- “ولي منها: صدى لغتي على الجدران”.
- “خشب الهياكل والرسوم على جدران الكهف”.
- “والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي”.
عند النظر في معنى “الجداريات” في أشعار درويش السابقة، يتضح أنه يعبر عن الكتابة على الجدار، مما يدل على رغبة الشاعر في نقل مشاعره وأحاسيسه عبر هذا السطح الدائم. ولا يعتبر الأمر غريباً، على الرغم من تطور وسائل الكتابة، لأن الجدار يُرمز للبقاء.
من خلال تخصيص درويش اسمه للعنوان، فإنه كان يعبّر عن رغبته في الخلود، فعندما واجه الموت، سعى بكل الوسائل لإبراز هويته؛ إذ تعكس الجدارية صراعه الوجودي الذي عانق العوالم المختلفة للحياة والموت، مما دفعه لنسج نوع خاص من الشعر يخلده للابد.
التحليل الدلالي للجدارية
يعتمد التحليل الدلالي للقصائد على عدة عناصر، منها:
الصورة الشعرية في الجدارية
تعتبر الصورة الشعرية من العناصر الأساسية في التعبير عن الحالة النفسية للشاعر، وكذلك في تجسيد الصورة التي يرغب في إيصالها للمتلقي. ومن بين الصور الفنية في القصيدة:
- على طللي ينبت الظل أخضر
هنا يشبه درويش الظل بشيء مادي لونه أخضر، ويستخدم استعارة مكنية عبر حذف المشبه به مع الإبقاء على بعض من لوازمه.
- البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامة
استعارة مكنية من خلال تشبيه الغمامة كأن لها سقف، مما يعزز الشعور باللعب الإبداعي في الصورة الشعرية.
الرمز في الجدارية
تحمل الرموز أهمية كبيرة في الجدارية، حيث قام درويش بالاستناد إلى مجموعة من الرموز الدلالية التي تخدم الهدف الشعري، ومن أبرز هذه الرموز:
- قول درويش:
:فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي:
:”ماذا فعلتَ، هناك، في الدنيا؟”
:ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ، ولا
:أَنينَ الخاطئينَ، أَنا وحيدٌ في البياض
هنا، يشير درويش إلى الرموز الدينية في الإسلام، حيث يمثل الطيبون أهل الجنة والخاطئون أهل النار.
- قول درويش:
:ما أنا؟
:مَنْ ينامُ الآن
:أنكيدو؟
:أَنا أَم أَنت؟
:آلهتي كقبض الريحِ
:فانهَضْ بي بكامل طيشك البشريِّ
يستخدم درويش هنا رمز “أنكيدو”، وهو شخصية محورية في أسطورة جلجامش القديمة.
الأسطورة في الجدارية
تحتوي الجدارية على إشارات متعددة تتعلق بالأساطير المختلفة، ومن بين الأساطير التي استند إليها درويش: “أسطورة العنقاء، ديونيسيوس، أسطورة البعث، أسطورة الصقر، أسطورة الوعل الذي يحمل الأرض على قرنه، أسطورة الصدى والنرجس، أسطورة عناة، أسطورة أوزيريس”.
التحليل الإيقاعي للجدارية
يتشكل الإيقاع في القصيدة من خلال عدة عوامل، منها:
الموسيقى الداخلية
تحتوي مقاطع الجدارية على مصادر موسيقية عديدة تساهم في تعزيز جاذبية لحنها. ومن بين تلك العناصر:
- التكرار الصوتي
يعتبر التكرار الصوتي وسيلة فعالة في إثراء النص موسيقيًا، حيث يعكس الحالة الشعورية للشاعر. من بين التكرارات الملحوظة، نجد أن أحد مقاطع القصيدة انتهى قافيته بكلمة “الدال” ذات الوزن “فعيل”، مثل: وحيد، وشريد، وطريد، ورغيد، ومديد، وبريد.
- التجانس بين حروف الجهر والهمس
الاختلاف في استخدام حروف الهمس والجهر يعبر عن الحالة النفسية للشاعر. من بين الأمثلة، قول محمود درويش:
:يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة
:نام أنكيدو ولم ينهض جناحي نام.
تظهر كلمة “جناحي” هنا مزيجًا بين حروف الجهر والهمس.
- الاستفادة من صفات الحروف وتوظيفها في أشعاره
مثل استخدام حرف الصاد بصفاته القوية في مقطع يتحدث فيه عن الحصان، حيث يقول درويش:
:وأنا أنا لا شيء آخر
:واحد من أهل هذا الليل. أحلم
:بالصعود على حصاني فوق، فوق
- استخدام المدود الطويلة
أسهمت المدود الطويلة بشكل كبير في الموسيقى النصية، مثل: “ظلّي، سيقودني، نافذتي، شراييني، تنفسي”، مما خلق لحنًا مميزًا يتماشى مع الحديث الطويل الذي يسعى الشاعر للتعبير عنه.
- استخدام النداء
أسهم النداء بشكل كبير في تعميق الإيقاع أثناء حديث الشاعر عن الموت، حيث كرر درويش ندائه، مثل قوله:
:يا موت! يا ظلي الذي
:سيقودني، يا ثالث الاثنين
- تكرار الكلمات
يمثل التكرار في القصائد مؤشرًا على حالات شعورية مضطربة تعكس تجربة الشاعر، ومن الأمثلة:
:نسيت ذراعي، ساقيّ، والركبتين
:وتفاحة الجاذبية
:نسيتُ وظيفة قلبي
- استخدام الصيغ الاشتقاقية المتنوّعة للكلمة الواحدة
يعتبر من وسائل تأكيد الشاعر لأفكاره المتعددة، كقول:
:دع الماضي جديدًا فهو ذكراك
:الوحدة بيننا، أيام كنا أصدقاءك
:لا ضحايا مركباتك، واترك الماضي
:كما هو، لا يقاد ولا يقود
الموسيقى الخارجية
تتكون “جدارية” محمود درويش من 63 مقطعًا، وقد اعتمدت موسيقاها على البحرين الكامل والمتقارب على النحو التالي: “الكامل من 9-28، المتقارب 29-32، الكامل 33-64، المتقارب 65-67، الكامل 68-85، المتقارب 86-91، الكامل 92-105″، بينما تفاوتت القوافي بتعدد الأغراض والمعاني.
التحليل التركيبي للجدارية
يتبع الأسلوب المستخدم في نص محمود درويش منهجًا أدبيًا يستند إلى مفردات اللغة، ويعتمد على التوافق بين القواعد النحوية والمعنى الذي يسعى الشاعر لتعزيزه. وقد تميزت الجدارية بعدد من الأساليب اللغوية، مثل التقديم والتأخير، الحذف، التوازي النحوي، الشرط، الضمائر وغيرها. كما سيأتي توضيحه.
التقديم والتأخير
تكررت ظاهرتا التقديم والتأخير بشكل ملحوظ في الجدارية، حيث مستخدمة بشكل واضح. وقد لوحظ تقديم شبه جملة (الجار والمجرور) بشكل كبير.
بينما كان استخدام الظروف قليلًا، وظهر التقديم في أماكن متنوعة لكن بشكل أقل وضوحًا، حيث كانت السمة الرئيسية هي تقديم أشباه الجمل. ومن الأمثلة قول درويش:
:للولادة وقت
:وللموت وقت
:وللنطق وقت
:وللحرب وقت
:وللصلح وقت
:وللوقت وقف
:ولا شيء يبقى على حاله
الحذف
ظهر الحذف بشكل عابر في الجدارية، حيث يجمع بين السمة النحوية والبلاغية. وقد تنوع بين حذف الجملة، الكلمة، الحرف، وكان الأكثر تكرارًا هو حذف الكلمة. ومن أمثلة الحذف في الجدارية:
:وضعوا على
:التابوت سبع سنابل خضراء إن
:وجدت، وبعض شقائق النعمان إن
:وجدت، وإلا، فاتركوا ورد
:الكنائس للكنائس والعرائس
في المثال أعلاه، هناك حذف لجملة الشرط بجزءين، “إن وجدت سبع سنابل خضراء، إن وجدت بعض شقائق النعمان”. كما حذف الفعل والفاعل وفي التكرار.
التوازي النحوي
شهدت الجدارية تكرارًا واضحًا للتوازي النحوي. ومن أبرز الأمثلة المتعلقة بذلك:
:ولم أجد موتًا لأقتنص الحياة
:ولم أجد صوتًا لأصرخ: أيها
:الزمن سريع! خطفتني كما تقول
حيث تتشابه الصياغتان بشكل لافت.
الأساليب النحوية
برزت الأساليب الإنشائية بشكل كبير في “جدارية” درويش، حيث لم تخلو صفحاتها من استعمال هذه الأساليب، مثل الاستفهام في قوله:
:من أنت يا أنا؟ في الطريق
:اثنان نحن وفي القيامة واحد
:خذني إلى ضوء التلاشي كي أرى
:صيرورتي في صورتي الأخرى
:ورائي أم أمامك؟ من أنا يا أنت؟
كما استخدم درويش عددًا من التصريفات التركيبية بكثرة، مثل استخدام اسم الفاعل للدلالة على الحدث وصاحبه، كما في قوله:
:جالس مثل تاج الغبار
:على مقعدي
:باطل، باطل، الأباطيل، باطل
:كل شيء على البسيطة زائل
كما لجأ إلى استخدام المبالغة، للتعبير عن الكثرة، كما في:
:وأنا الغريب. تعبت من درب الحبيب
:إلى الحبيب. تعبت من صفتي
:يضيق الشكل. يتسع الكلام. أفيض
:عن حاجات مفردتي. وأنظر نحو نفسي في المرايا
أبرز الآراء النقدية حول الجدارية
حازت الجدارية على اهتمام واسع من النقاد والباحثين، الذين أبدوا آراء متعددة حولها. ومن هذه الآراء:
- رأي الباحث الجزائري محمد شادو
“يمكننا القول إن كل سطر في الجدارية هو لحظة قراءة مُعادة لنص متجذر في الماضي بحواراته الداخلية والخارجية، ومرتبط بالحاضر في اللحظة الآنية للكتابة، ومتعامل مع المستقبل في كل لحظات الصراع الدرامي مع الموت”.
- رأي الباحث الفلسطيني عبد القادر الجموسي
“إن جدارية محمود درويش قصيدة شبكية بامتياز، تحكي -بلغة الضوء والإشراق الخاطفة- سيرة شعرية لمواجهة حوارية ملتبسة ومشتبكة بين الذات والعالم وبين الذات والموت، مواجهة تستثير غبار الأسئلة الحارقة، وتستبطن أقاصي الروح الشاعرة، وأقاصي الكلام وتخوم الذاكرة القصية”.