جابر بن حيان
تُعَدّ ريادة جابر بن حيان في منهج البحث العلمي وابتكاره لتقنيات جديدة في مجال النظرية والتجربة والتطبيق، من العوامل الأساسية التي أسهمت في تطوير الفكر العلمي ورفعته من مستوى الخرافات والأساطير إلى فروع علمية راسخة. لذلك، لا شك أنه يعتبر بلا منازع “شيخ الكيميائيين”.
وُلِد العالم العربي أبو موسى جابر بن حيان في عائلة ذات تاريخ علمي وديني، ويعود تاريخ ميلاده إلى عام 103هـ الموافق 721م. فيما يتعلق بمكان ولادته، لا توجد إجماع حول ذلك بين الرواة؛ فبعضهم ذكر أنه وُلِد في منطقة الفرات بالعراق، بينما أشار آخرون إلى حران، وهناك من يرى أنه نشأ في طوس في إقليم خراسان، وهو الرأي الأكثر تداولاً.
بداية مسيرة جابر بن حيان
بدأ جابر بن حيان رحلته العلمية على يدي والده، حيث تعلم فن العطارة وأتقنها. ولكن بعد فترة وجيزة، تأثرت حياته بعد فقدانه والده في النزاعات القتالية المرتبطة بالسلطة. نتيجة لذلك، انتقل للعيش في الكوفة، حيث تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق الذي قدم له عُصارة علوم الكيمياء المأخوذة من الثقافات اليونانية والهندية والمصرية والصينية والفارسية. ومع هذا، أدرك جابر أن العديد من هذه العلوم كانت مليئة بالخرافات والأساطير، مما دفعه للالتزام بأسلوب علمي تجريبي قائم على المناقشة والدراسة، وقد أثبتت منهجيته نجاحها بفضل النتائج التي حققها.
أنطلق جابر بن حيان في أبحاثه بدراسة النظرية الإغريقية – نظرية العناصر الأربعة – التي تفيد بأن جميع مكونات الكون ما هي إلا مزيج من أربعة عناصر رئيسية: الهواء، الماء، التراب، والنار. وكما تحدد هذه النظرية أن خصائص كل موجود تتغير بناءً على نسبة كل عنصر في المزيج، فإنها كانت سائدة لآلاف السنين قبل دراسات جابر. بعد أبحاثه، اتجه لدراسة خصائص المواد وتعرضها للحرارة والطرق، مما أدى إلى تسجيله العديد من الملاحظات التي أسست لنهج التجربة والتحليل في علوم الكيمياء.
إسهامات جابر بن حيان في الكيمياء
قدم جابر بن حيان ابتكارات مهمة في تجاربه، وخاصة من خلال تطوير جهاز التقطير، وهو جهاز زجاجي يستعمل لفصل المواد الكيميائية السائلة بناءً على اختلاف درجات غليانها. من خلال فهمه لمفاهيم التبخر والتكاثف والذوبان، استطاع أن يحضر أنواعًا متنوعة من الأحماض، مثل حمض الأسيتيك المستخرج من الخل، وحمض الطرطريك المستخرج من فضلات الخمر، وكذلك حمض الستريك المأخوذ من الفواكه غير الناضجة، مما كان له دور كبير في تطور علوم الكيمياء التطبيقية.
إن من يعرف الغاية لا تغيب عنه السبل. بهذه الروحية، تمكن جابر بن حيان من تجاوز العشوائية في التجارب عن طريق اختراعه جهازًا للوزن، مما زوده بإمكانية قياس الوزن النوعي للمادة الصلبة أو السائلة. ومن الجدير بالذكر أن معالم العمارة قد شهدت ازدهارًا كبيرًا بعد ابتكار جابر للحبر الذهبي، الذي تم تحضيره بخلط حمض النيتريك مع حمض الهيدروكلوريك، والذي أذاب المعادن مثل الذهب وجعلها قابلة للطلي والكتابة، مما أحدث تحولات جذرية في الفنون المعمارية في العالمين العربي والإسلامي، وكذلك في الإمبراطورية الأوروبية آنذاك.
تراث ابن حيان المكتوب
ترك ابن حيان وراءه إرثًا كبيرًا من المؤلفات العلمية التي تتجاوز 500 رسالة في الكيمياء، مما يعكس عمق معرفته وابتكاراته الفريدة. كان لديه أيضًا عدة رسائل حول المرايا، بالإضافة إلى آثار ومؤلفات في الطب والفلسفة والرياضيات، مما يدل على موسوعية هذا العالم العظيم. تمت ترجمة العديد من مؤلفاته إلى لغات مختلفة، ولا تزال تُعتبر مرجعًا أساسيًا لطلبة الدراسات العليا في جامعات العالم، وقد أسهمت في وضع أساس قوي لعلوم الكيمياء الحديثة. من بين مؤلفاته:
- كتاب “الخواص الكبير”: وهو أشهر كتبه، وتوجد نسخته الأصلية في المتحف البريطاني.
- كتاب “أسرار الكيمياء”.
- كتاب “أصول الكيمياء”.
- كتاب “الرحمة”.
- كتاب “السبعين”.
- كتاب “البحث عن الكمال”.
- كتاب “الأتون”.
- كتاب “العهد”.
تجدر الإشارة إلى أن كتابي ابن حيان “نهاية الإتقان” و”رسالة الأقران” قد تم ترجمتهما إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان لهما تأثير واضح في تشكيل المنهج التجريبي الأوروبي، مما أضاء الطريق لعلماء عظام في أوروبا مثل: روجر بيكون، فرانسيس بيكون، روبرت الشستري، نيوتن، بريستلي، ألتون، جاليليو، ولافوزاييه وغيرهم.
من أقوال جابر بن حيان
أشار جابر بن حيان في العديد من أقواله إلى فلسفته في التجارب، ومن تلك الأقوال:
- (من كان دؤوبـاً كان عالِماً حقاً، ومن لم يكن دؤوباً لم يكن عالماً، وحسبُك بالدّربة في جميع الصنائع، إنّ الصانع المدرب يحذق، وغير المدرب يُعطل).
- (إنّ كلّ نظرية تحتمل التصديق والتكذيب؛ لا يصحّ الأخذ بها إلا مع الدليل القاطع).
- قال ابن حيان في كتابه “الخواص الكبير”: (ذكرنا في هذا الكتاب خواص ما رأيناه فقط، دون ما سمعناه أو قرأناه، بعدما امتحنّاه وجرّبناه، فما صحّ أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه قايَسْناه على أحوال هؤلاء القوم).
- ومن أقواله أيضاً: (إنّ من لم يسبق إلى العلم لم يمكنه إتيان العمل؛ وذلك لأنّ العلل إنّما تُبرز الصورة في المادة على قدر ما تقدّم من العلم).
وفاة ابن حيان
عاش جابر بن حيان حياة مليئة بالعلم والتجارب، وبعد نجاح الثورة العباسية استقر في بغداد، لكنه توفي في طوس – مسقط رأسه – عام 813م، تاركًا وراءه إرثًا من الإنجازات العلمية التي سطرت اسمه بأحرف من نور في صفحات التاريخ.