تحليل النص من المقامة الحلوانية
يتناول عيسى بن هشام في هذه المقامة تجربته بعد العودة من الحج، حيث يذكر أنه لدى وصوله إلى مدينة حلوان كانت عليه علامات السفر واضحة، حيث طالت شعره وتلطخت ثيابه. لهذا السبب، طلب من خادمه أن يبحث له عن حمام وحجّام مناسبين. وقد وضع عدة شروط لهذا الطلب، أبرزها أن يكون الحمام واسعًا ونظيفًا، وأن يكون الماء عذبًا والهواء نقيًا. كما اشترط أن يكون الحجّام محترفاً، حاد الشفرة، نظيف الثياب وقليل الكلام.
خرج خادم عيسى بن هشام في رحلة بحثه عن الحمام والحجّام المناسب، واستغرقت الرحلة بعض الوقت حتى عاد وفي جعبته الإجابة. قاد عيسى بن هشام بعد ذلك إلى الحمام، ولكن تجربته لم تكن كما كان يتمنى، مما جعله يعاقب خادمه على اختياراته السيئة. والجدير بالذكر أن المقامة تتميز بالاستعانة بالمحسنات البديعية، لا سيما السجع، مثل: (حمّام وحجّام)، (الرقعة والبقعة)، (الهواء والماء).
خصائص المقامة الحلوانية
تتميز هذه المقامة بعدة خصائص، منها:
- احتواؤها على حكاية تنتهي بفكاهة ووعظة.
- التزامها بأسلوب لغوي فني، حيث قدم عيسى بن هشام أداءً لغويًا يتسم بالتوازن بين الرقة والغرابة.
- وجود العديد من المحسنات البديعية، وخاصة السجع.
- تتابع الأحداث بشكل يخلق توترًا يفضي في النهاية إلى حل العقدة.
المقامة الحلوانية
وإليكم النص الكامل للمقامة الحلوانية:
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: لَمَّا قَفَلْتُ مِنَ الحَجِّ مَعَ مَنْ قَفَلَ، وَنَزَلْتُ في حَلْوان مَعَ مَنْ نَزَلَ، قُلْتُ لِغُلَامِي: أَجِدُ شَعْرِي طَوِيلاً، وَقَدِ اتَّسَخَ بَدَنِي قَلِيلًا، فَاخْتَرْ لَنَا حَمَّامًا نَدْخُلُهُ، وَحَجَّامًا نَسْتَعْمِلُهُ، وَلَيَكُنْ الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ، مُعْتَدِلَ المَاءِ، وَلْيَكُنْ الحَجَّامُ خَفِيفَ اليَدِ، حَدِيدَ المُوسَى، نَظِيفَ الثِّيَابِ، قَلِيلَ الفُضُولِ. فَخَرَجَ مَلِيًّا وَعَادَ بَطِيًّا، وَقَالَ: قَدِ اخْتَرْتُهُ كَمَا رَسَمْتَ، فَأَخَذْنَا إِلَى الحَمَّامَ السَّمْتَ، وَأَتَيْنَاهُ فَلَمْ نَرَ قَوَّامَهُ، لَكِنِّي دَخَلْتُهُ وَدَخَلَ عَلَى أَثَرِي رَجُلٌ وَعَمَدَ إِلَى قِطْعَةِ طِينٍ فَلَطَّخَ بِهَا جَبِينِي، وَوَضَعَها عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَلَ آخَرُ فَجَعَلَ يَدْلِكُنِي دَلْكًَا يَكُدُّ العِظامَ، وَيَغْمِزُنِي غَمْزًَا يَهُدُّ الأَوْصالَ وَيُصَفِّرُ صَفِيرًا يَرُشُ البُزَاقَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَأْسِي يَغْسِلْهُ، وَإِلَى المَاءِ يُرْسِلُهُ، وَمَا لَبِثَ أَنْ دَخَلَ الأَوَّلُ فَحَيَّا أَخْدَعَ الثَّانِي بِمَضُمُومَةٍ قَعْقَعَتْ أَنْيَابَهُ، وَقَالَ: يَا لُكَعُ مَا لَكَ وَلِهَذَا الرَّأْسِ وَهُوَ لِي؟ ثُمَّ عَطَفَ الثَّانِي عَلَى الأَوَّلِ بِمَجْمُوعَةٍ هَتَكَتْ حِجَابَهُ، وَقَالَ: بَلْ هَذَا الرَّأْسُ حَقِّي وَمِلْكِي وَفِي يَدِي، ثُمَّ تَلاكَمَا حتَّى عَيِيَا، وَتَحَاكَمَا لِمَا بَقِيَا، فَأَتَيَا صَاحِبَ الحَمَّامِ، فَقَالَ الأَوَّلُ: أَنَا صَاحِبُ هَذَا الرَّأْسِ؛ لأَنِّي لَطَّخْتُ جَبِينَهُ، وَوَضَعْتُ عَلَيْهِ طِينَهُ، وَقَالَ الثَّانِي: بَلْ أَنَا مَالِكُهُ؛ لأَنِّي دَلَكْتُ حَامِلَهُ، وَغَمَزْتُ مَفَاصِلَهُ. فَقَالَ الحَمَّامِيُّ: ائْتُونِي بِصَاحِبِ الرَّأْسِ أَسْأَلُهُ، أَلَكَ هَذَا الرَّأْسُ أَمْ لَهُ، فَأَتَيَانِي وَقَالَا: لَنَا عِنْدَكَ شَهَادَةٌ فَتَجَشَّمْتُ، فَقُمْتُ وَأَتَيْتُ، شِئْتُ أَمْ أَبَيْتُ، فَقَالَ الحَمَّامِي: يَا رَجُلُ لاَ تَقُل غَيْرَ الصِّدْقِ، وَلا تَشْهَدْ بِغَيْرِ الحَقِّ، وَقُلْ لِي: هَذَا الرَّأْسُ لأيِّهِمَا؟ فَقُلْتُ: يَا عَافَاكَ اللهُ هَذَا رَأْسِي، قَدْ صَحِبَنِي فِي الطَّرِيقِ، وَطَافَ مَعِي بِالْبَيْتِ العَتِيقِ، وَمَا شَككْتُ أَنَّهُ لِي، فَقَالَ لِي: اسْمُتْ يَا فُضُولِيُّ، ثُمَّ مالَ إِلَى أَحَدِ الخَصْمَيَنِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِلَى كَمْ هَذِه المُنافَسَةُ مَعَ النَّاسِ، بِهَذَا الرَّأْسِ؟ تَسَلَّ عَنْ قَلِيلِ خَطَرِهِ، إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَحَرِّ سَقَرِهِ، وَهَبْ أَنَّ هَذَا الرَّأْسَ لَيْسَ، وَأَنَا لَمْ نَرَ هَذَا التَّيْسَ.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُمْتُ مَن ذَلِكَ المَكَانِ خَجِلًا، وَلَبِسْتُ الثِّيَابَ وَجِلًا، وَانْسَلَلْتُ مِنْ الحَمَّامِ عَجِلًا، وَسَبَبْتُ الغُلَامَ بِالعَضِّ وَالمصِّ، وَدَقَقْتُهُ دَقَّ الجِصِّ، وَقُلْتُ لِآخَرَ: اذْهَبْ فَأْتِني بِحَجَّامٍ يَحُطُّ عَنِّي هَذَا الثِّقَلَ، فَجَاءَنِي بِرَجُلٍ لَطِيفِ البِنْيَةِ، مَلِيحِ الحِلْيَةِ، فِي صُورَةِ الدُّمَيَةِ، فَارْتَحْتُ إِلَيْهِ، وَدَخَلَ فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ قُمَّ، فَقَالَ: حَيَّاكَ اللَّهُ! مِنْ أَرْضِ النِّعْمَةِ وَالرَّفَاهَةِ وَبَلَدِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلَقَدْ حَضَرْتُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جَامِعَها وَقَدْ أُشْعِلَتْ فِيهِ المَصَابِيحُ، وَأُقِيمَتِ التَّرَاوِيحُ، فَمَا شَعَرْنَا إِلَّا بِمَدِّ النِّيِلِ، وَقَدْ أَتَى عَلَى تِلْكَ القَنَادِيلِ، لكِنْ صَنَعَ اللَّهُ لِي بِخُفِّ قَدْ كُنْتُ لَبِسْتُهُ رَطْبًا فَلَمْ يَحْصُلْ طِرَازُهُ عَلَى كُمِّهِ، وَعَادَ الصَّبِيُّ إِلَى أُمِّهِ، بَعْدَ أَنْ صَلَّيْتُ العَتَمَةَ وَاعْتَدَلَ الظِّلُّ، وَلَكِنْ كَيْفَ كَانَ حَجُّكَ؟ هَلْ قَضَيْتَ مَنَاسِكَهُ كَمَا وَجَبَ، وَصَاحُوا العَجَبَ العَجَبَ؟ فَنَظَرْتُ إِلَى المَنَارَةِ، وَمَا أَهْوَنَ الحَرْبَ عَلَى النَّظَّارَةِ، وَوَجَدْتُ الهَرِيسَةَ عَلَى حالِهَا، وَعَلِمْتُ أَنَّ الأَمْرَ بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَقَدَرٍ، وَإِلَى مَتَى هَذَا الضَّجَرُ؟ وَاليَوْمُ وَغَدُ، وَالسَّبْتُ وَالأَحَدُ، وَلا أَطِيلُ وَمَا هَذَا القَالَ وَالقِيلَ؟ وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ المُبَرِّدَ فِي النَّحْوِ حَدِيدُ المُوسَى فَلا تَشْتَغِلْ بِقَوْلِ العَامَّةِ؛ فَلَوْ كَانَتِ الاسْتِطَاعَةُ قَبْلَ الفِعْلِ لَكُنْتُ قَدْ حَلَقْتُ رَأْسَكَ، فَهَلْ تَرَى أَنْ نَبْتَدِئَ؟
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَبَقَيْتُ مُتَحَيِّرًا مِنْ بَيَانِهِ، فِي هَذَيَانِهِ، وَخَشِيتُ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسَهُ، فَقُلْتُ: إِلَى غَدٍ إِن شَاءَ اللَّهُ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ مَنْ حَضَرَ، فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ بِلَادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَم يُوَافِقْهَ هَذَا المَاءُ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ السَّوْدَاءُ، وَهُوَ طُولَ النَّهَارِ يَهْذِي كَمَا تَرَى، وَوَرَاءَهُ فَضْلٌ كَثِيرٌ، فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْتُ بِهِ، وَعَزَّ عَلَيَّ جُنُونُهُ، وَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
أَنَا أُعْطِي اللهَ عَهْدًا
مُحكَّمًا فِي النَّذْرِ عَقْدًا
لا حَلَقْتُ الرَّأْسَ مَا عِشْتُ وَلَوْ لاقَيْتُ جَهْدًا.