علم الوراثة
يُعتبر علم الوراثة فرعًا علميًا يُعنى بدراسة الجينات، والتي تُعد الوحدات الأساسية المسؤولة عن نقل الخصائص الوراثية من الوالدين إلى الأبناء. كما يشمل هذا العلم دراسة الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) الذي يتكون منه الجينات، وتأثيره على التفاعلات المختلفة التي تحدث داخل الخلية الحية. بالإضافة إلى ذلك، يتناول علم الوراثة تأثير العوامل البيئية على ظهور الصفات الوراثية.
يُعزى الفضل في تطور علم الوراثة إلى العالم غريغور مندل (بالإنجليزية: Gregor Mendel)، الذي اكتشف القوانين التي تحكم انتقال الصفات الوراثية بين الأجيال في منتصف القرن التاسع عشر. ولم يكن مندل على علم بالطبيعة الفيزيائية أو الكيميائية للجينات في ذلك الوقت، حيث أطلق عليها اسم “العوامل”. وقد ظهر مصطلح “علم الوراثة” (بالإنجليزية: Genetics) لأول مرة عام 1905 على يد العالم البريطاني ويليام باتسون (William Bateson)، الذي كان من أبرز المروجين لأفكار مندل وتجربته.
تاريخ علم الوراثة
لا شك أن اهتمام البشرية بعلم الوراثة بدأ منذ زمن بعيد، حيث أدرك الإنسان تأثير الوراثة وطبق مبادئها لتحسين المحاصيل الزراعية وتربية الحيوانات الأليفة. على سبيل المثال، يُظهر لوح بابلي يعود لأكثر من 6000 عام شجرة عائلة لبعض الخيول، ويشير إلى بعض الصفات القابلة للتوريث، كما تعكس النقوش القديمة عمليات التهجين للأشجار. ومع ذلك، فإن أولى التسجيلات المتعلقة بالنظريات الوراثية تعود إلى زمن الإغريق القدماء.
طرح الفيلسوف أبقراط (Hippocrates) فرضية شاملة تُعرف بالتخلّق (بالإنجليزية: Pangenesis) تفيد بأن أعضاء الأبوين تشكّل بذورًا غير مرئية تنتقل إلى رحم الأم عبر الجماع، حيث تعيد تشكيل نفسها لتكوين الطفل. كما افترض أرسطو (Aristotle) أن الدم هو المصدر الذي يُغذي الجسم بالمواد الأساسية التي يتكون منها، وكان يعتقد أن السائل المنوي الذكوري هو دم مُنقّى، بينما يُشبه دم الأنثى أثناء الحيض السائل المنوي للذكر، ومن التقاء هذين السائلين ينتج الطفل.
وعرض العالم الفرنسي جان باتيست لامارك فرضية وراثة الصفات المكتسبة، حيث افترض أن بعض الأعضاء قد تتطور نتيجة تغييرات بيئية، وأن هذه الصفات المكتسبة يمكن أن تُورَث لسلالتها. وكان يعتقد أن طول رقبة الزرافة نتج عن محاولات حيوانات شبيهة بالغزال مدّ رقابها للوصول إلى أوراق الأشجار العالية. وتلا ذلك تقديم العالمين ألفريد راسل والاس (Alfred Russel Wallace) وتشارلز داروين (Charles Darwin) لفرضية الانتخاب الطبيعي، حيث افترض داروين أن الإنسان والحيوانات تربطهما أصول مشتركة، رغم أن هذه الأفكار كانت متعارضة مع تجارب مندل في الوراثة.
تجارب العالم مندل
بدأ غريغور مندل تجاربه عام 1856، حيث اختبر عدة كائنات مثل الفئران ونحل العسل، ولكنه وجد أن نبات البازيلاء هو النموذج الأنسب لأبحاثه. درس مندل سبع صفات وراثية في هذا النبات، وكل صفة على حدة، مثل طول النبات، ولون الأزهار، ولون البذور، وشكل البذور. ولضمان دقة تجاربه، تأكد من نقاء الصفة الوراثية المدروسة، من خلال السماح للنباتات ذات الصفة بالتلقيح الذاتي لعدة أجيال حتى تثبيت الصفة. وبعد الحصول على بذور ذات صفات نقية، أجرى مندل تجاربه من خلال الخطوات التالية:
- التلقيح الخلطي: حيث لقح مندل نباتًا يحمل الصفة النقية الأولى (مثل نبات طويل الساق) من نبات آخر يحمل الصفة النقية المقابلة (مثل نبات قصير الساق). وقد لاحظ أن جميع أفراد الجيل الناتج كانت طويلة الساق، دون ظهور أي نبات قصير الساق. أطلق مندل على الصفة التي ظهرت اسم الصفة السائدة (بالإنجليزية: Dominant trait)، في حين أطلق على الصفة التي اختفت اسم الصفة المتنحية (بالإنجليزية: Recessive trait).
- التلقيح الذاتي: سمح مندل للنباتات طويلة الساق الناتجة عن التلقيح الخلطي بالتلقيح الذاتي، وظهر في الجيل الثاني نسبة قليلة من النباتات قصيرة الساق. إذ وجد أن نسبة النباتات طويلة الساق تتجاوز ثلاثة أضعاف النباتات قصيرة الساق، أي بمعدل 3:1. ولاحظ مندل أن انتقال صفة طول الساق لم يؤثر على توارث الصفات الأخرى، مثل لون الأزهار.
نتائج تجارب مندل
في عام 1865، وبعد ما يقارب عقد من الزمان على بدء تجاربه، قدم مندل نتائج دراساته التي شملت حوالي 30000 نبات بازيلا. وكانت النتائج كما يلي:
- تحكم الصفة الوراثية زوج من العوامل القابلة للتوريث، والتي تنتقل من الآباء إلى الأبناء. (العوامل هنا هي الجينات، لكن المصطلح لم يكن قد ظهر في زمن مندل).
- يمكن لأحد العوامل أن يُخفي تأثير الآخر، ويُسمى العامل الأول السائد، بينما يُسمى العامل الثاني المتنحي.
- تنفصل أزواج العوامل أثناء تكوين الجاميتات، حيث يُنتقل أحد العوامل عشوائيًا إلى الجاميت الأنثوي، وينتقل الآخر إلى الجاميت الذكري.
- تُورث أزواج العوامل التي تتحكم في ظهور صفة وراثية بشكل مستقل عن العوامل التي تتحكم في صفات وراثية أخرى.
أنواع الوراثة
تشير التجارب التي أجراها مندل إلى أن الجين السائد يُخفي أثر الجين المتنحي عند اجتماعها. فعندما يلتقي الجين المسؤول عن شكل البذور الملساء مع جين شكل البذور المجعدة، تظهر البذور الملساء، لأن الجين الملساء يسود بشكل كامل على الجين المجعد. وهذا هو مبدأ السيادة التامة (بالإنجليزية: Complete Dominance) الذي يحكم بعض الصفات، لكن هناك أنواع أخرى من الصفات الوراثية تعرف بالصفات غير المندلية، حيث لا تنطبق عليها قوانين مندل، ومنها:
- السيادة غير التامة: مثل صفة طبيعة الشعر لدى البشر، حيث الجين السائد هو جين الشعر المجعد والجين المتنحي هو جين الشعر الأملس. عند اجتماع الجينين، لا يلغي أحدهما تأثير الآخر، بل يظهر تأثير وسطي بينهما وهو الشعر المتموج. ومثال آخر هو لون أزهار نبات شب الليل؛ عندما يجتمع الجين الأحمر السائد مع الجين الأبيض المتنحي، تظهر زهرة بلون وسطى بين الأحمر والأبيض، وهي الزهور القرنفيلية.
- السيادة المشتركة: تختلف هذه عن السيادة التامة وغير التامة، حيث لا توجد صفة متنحية. مثلاً، في وراثة لون الشعر في بعض سلالات الماشية، عند اجتماع الجين الأحمر مع الجين الأبيض، تظهر الماشية بشعيرات حمراء وبيضاء، مما يعني ظهور تأثير الجينين معًا.
- الجينات المميتة: في هذا النوع من الوراثة، يؤدي اجتماع جينين سائدين إلى موت الكائن الحي، مثل الجين المسؤول عن لون الشعر في فئران المنزل. الجين السائد هو جين اللون الأصفر والجين المتنحي هو الجين الرمادي (آجوتي). عند اجتماع الجينين السائدين، يكون له تأثير قاتل على الأجنة، مما يؤدي إلى موتها في مراحل مبكرة من الحمل.