مفهوم الاستشراق
يعتبر الاستشراق (بالإنجليزية: Orientalism) نظامًا نشأ أساسًا لأهداف سياسية استعمارية، حيث تم من خلاله تناول دراسة اللغات، الأدب، الأديان، الفلسفة، التاريخ، الفنون، والقوانين الاجتماعية للدول الآسيوية، مع تركيز خاص على المنطقة القديمة من الشرق الأوسط. يُستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى الشغف الذي أبدته الدول الأوروبية وأمريكا تجاه الشرق الأقصى، ويشكل إطارًا فكريًا للمسؤولين والعلماء الاستعماريين البريطانيين.
يمكن فهم الاستشراق من ثلاث زوايا مختلفة، حيث يُعتبر:
- مصطلحًا يُشير إلى حركة جمالية معينة، خاصة في مجال الفنون والرسم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (فترة وجود نابليون في مصر).
- مصطلحًا للدراسات المتعلقة بدول الشرق خلال فترة الغزو الاستعماري، والذي تمثل في إقامة مؤسسات تجارية ومراكز بحوث علمية في الدول الأوروبية.
- مصطلحًا يشير إلى الخطاب الثقافي الذي أوجده الاستعمار الأوروبي والأمريكي منذ القرن التاسع عشر، ويتضمن هذا الخطاب الأفكار والتصورات المتعلقة بالثقافة الشرقية، إضافة إلى الاستراتيجيات السياسية الخارجية والتدخلات في دول الشرق الأوسط التي تُعتبر دولًا إسلامية.
تاريخ الاستشراق
برز الاستشراق في أعقاب النهضة الصناعية والعلمية التي شهدتها أوروبا، وبالتحديد منذ القرن السادس عشر فصاعدًا. كان تأسيس الجمعيات العلمية في أوروبا أولى خطوات الاستشراق، ومن بين هذه الجمعيات: الجمعية البنغالية والجمعية الأمريكية للدراسات الشرقية، بالإضافة إلى الجمعية الملكية الآسيوية البريطانية التي ساهمت بشكل رئيسي في عمليات البحث والاستكشاف وفهم الحضارات الشرق أوسطية.
يشير كتاب (ولادة الاستشراق، بالإنجليزية: The Birth of Orientalism) إلى أن الاستشراق ظهر في القرن الثامن عشر نتيجة لدوافع اقتصادية، سياسية، ودينية، كما يبرز دور الصين واليابان في دفع هذا النظام العلمي لدراسة الشرق، حيث انتقلت الحضارة من تلك البلدان إلى الهند.
مراحل الاستشراق
يمكن تقسيم مراحل الاستشراق إلى ثلاث فترات: خلال الحروب الصليبية، عصر النهضة، وفترة الاستعمار:
الاستشراق في فترة الحروب الصليبية
خلال الحروب الصليبية من 1096م إلى 1891م، تم التركيز على دراسة سلوك السكان في الشرق، خصوصًا المسلمين، مما أدى إلى انتشار العديد من الصور النمطية السلبية تجاه الدين الإسلامي من قبل المستشرقين.
ويعود ذلك إلى عدم تمكن المستشرقين من إتقان اللغة العربية، مما أثر سلبًا على دقة الترجمة والفهم. وقد أدت هذه الدراسات إلى إنتاج أيديولوجيات متعددة، أبرزها الاعتقاد بأن الإسلام هو دين ثقافي نشأ من جاليات عربية، وأن نشر الدين كان قائمًا على أسس اقتصادية، مع تقديم تصورات خاطئة حول الإسلام وكأنه يحث على العنف.
الاستشراق خلال عصر النهضة
في هذه المرحلة، بدأ المستشرقون دراسة الشرق والدين والسياسة، معتبرين أن العقائد المتبعة في تلك المناطق هي السبب وراء معاناة الشعوب. ولذلك، ارتفعت نسبة الدراسات التنموية بشكل ملحوظ.
كان الهدف من هذه الدراسات هو دفع الفرد نحو الاعتماد على العقل ورفض العقائد التقليدية السائدة. واعتمد المستشرقون على نماذج دراسية متنوعة، من بينها الاستقلالية واستخدام الفلسفة الوضعية والمنطقية، وكذلك الفلسفة التاريخية.
الاستشراق في فترة الاستعمار
في هذه الفترة، برز الاستشراق من خلال دعمه لعمليات الاستعمار كوسيلة لحل مشكلات الدول الشرقية. وتجلت ملامح الاستشراق حينها في:
- تأسيس شركات كبرى، مثل شركة الهند الشرقية، التي أدخلت ممارسات الرأسمالية.
- نشر المسيحية بواسطة المستعمرين الغربيين، وخصوصًا البريطانيين.
- محاولة تشجيع الشعوب على النجاح من خلال التخلي عن العادات والممارسات الثقافية الموروثة.
- تطبيق نظام تعليمي غربي علماني يفصل بين المعرفة العلمية والدينية.
أهداف الاستشراق ودوافعه
حققت جهود الاستشراق مجموعة من الأهداف، من أبرزها:
- الهدف الديني: تم الوصول إليه من خلال البعثات التبشيرية إلى الأندلس، وما ارتبط بها من ترجمة القرآن إلى اللاتينية، حيث كان من الضروري فهم الدين الإسلامي لمواجهة التحديات التبشيرية.
- الهدف العلمي: ركزت الأبحاث على إنجازات الشرق الحضارية، وهو الأمر الذي ساعد على دفع النهضة الغربية، لذلك انصب اهتمام المستشرقين على دراسة الشرق لاستكشاف الفوائد المحتملة.
- الهدف الاقتصادي: سعى الاستشراق إلى استغلال الموارد الخام في الشرق وتوسيع نطاق التسويق للمنتجات الغربية.
- الهدف السياسي الاستعماري: تأصلت علاقة وثيقة بين الاستعمار والاستشراق، حيث ساهم الاستشراق في تعزيز الموقف الاستعماري كوسيلة لإنقاذ الشعوب المتراجعة، بينما ساعد الاستعمار المستشرقين من خلال تعيين البعض منهم في مناصب سياسية قيادية.
- الهدف الثقافي: تركز على نشر الثقافة الغربية ولغات أوروبا ومواجهة لغات الشرق.
أبرز المستشرقين في التاريخ
لا يمكن إحصاء أسماء المستشرقين، حيث كان لكل منهم دور مهم في هذا المجال. ومن بين الأسماء البارزة:
- أرموند آبل (Armand Abel): (1903 – 1973م) مستشرق بلجيكي عُرف بالاهتمام بالمناقشات المتعلقة بالعلاقات بين المسلمين والنصارى، ودرس السياسة المعاصرة في الشرق الأوسط.
- توماس إيربينياس (Tomas Erpenius): (1584 – 1624م) مستشرق هولندي يعتبر من أبرز من نقل العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية.
- إسترابينث كلديرون (Esrafin Estebanez Calderon): (1799 – 1876م) كان له تأثير كبير في مجالات الأدب والسياسة والإدارة، وشغل مناصب عسكرية رفيعة.
- ألبرت شولتنز (Albert Schultens): (1686 – 1750م) مستشرق هولندي درس اللاهوت واللغتين اليونانية والعبرية قبل أن يدرس العربية، وكانت له إسهامات كبيرة في جهود التبشير.
- سكيابرلي (Celestino Schiaparelli): (1841 – 1919م) مستشرق إيطالي ساعد في ترجمة العديد من الكتب العربية إلى اللاتينية.
- ألويس سبريجر (Aloys Sprenger): (1813 – 1893م) مستشرق نمساوي متخصص في الكتابات المتعلقة بالجانب العقدي، خاصة ما يرتبط بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
أهم الكتب المتعلقة بالاستشراق
تعددت الكتب التي تناولت موضوع الاستشراق، وأهم هذه المؤلفات:
- “الاستشراق” لإدوارد سعيد، حيث يتناول سعيد الطرق التي استخدمها الغرب لمواجهة الشرق على مدى 2000 عام، بالإضافة إلى تقديم استنتاجات تُبطل معظم الافتراضات التي قدمها المستشرقون.
- “المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية” لإسماعيل عمايرة؛ يناقش الكتاب الدوافع وراء دراسة المستشرقين للغة العربية لتحقيق أهدافهم السياسية والدينية والاقتصادية.
- “المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية” بحث في الجذور التاريخية للظاهرة الاستشراقية، لإسماعيل عمايرة، حيث يستعرض الكتاب العلاقة بين الإسلام والغرب ويقدم أسس الفجوة القائمة بينهما.
الختام
نشأ الاستشراق لأهداف سياسية، دينية، وتجارية، حيث عُني بدراسة الشرق والشرق الأوسط عبر مجالات متعددة. كان له تأثير ثقافي وعسكري بهدف فرض الهيمنة الغربية وتعزيز القوة العلمية والعسكرية على حساب الشرق. استندت جهود الاستشراق إلى تعزيز الأيديولوجيات الغربية، مما ساهم في تحويل الثقافة الشرقية والتقليل من تأثيرها لصالح الثقافة الغربية في مجالات التفكير والمعيشة والتعليم.