الهجاء في العصر العباسي
ساهمت التحولات في الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية خلال العصر العباسي في تعزيز فن الهجاء، مما أدى إلى زيادة عدد شعرائه وانتشار استخدامه. كما ظهرت مواضيع جديدة في الشعر، بينما تراجعت مواضيع أخرى، مثل العصبيات القبلية، مما أسهم في تراجع الهجاء الجماعي. وظهرت الفردية في الهجاء، حيث أصبح لتطور المعاني تأثير كبير في زيادة النقد واستخدام الألفاظ المذمومة.
خصائص شعر الهجاء في العصر العباسي
يمتاز شعر الهجاء في العصر العباسي بعدة خصائص، ومنها:
- الصورة البلاغية
تشير الصورة البلاغية إلى استخدام الأساليب الأدبية لتعزيز المعاني المراد إيصالها، باستعمال التشبيه أو المجاز أو الكناية، والابتعاد عن المعاني السطحية لزيادة جمالية النص. ومن الأمثلة على ذلك قول ابن الرومي:
يا عمرو سالتْ بك السيولُ
لأمّك الويل والهبولُ
وجهك يا عمرو فيه طولُ
وفي وجوه الكلاب طولُ
فأين منك الحياءُ قل لي
يا كلبُ والكلب لا يقولُ
والكلبُ من شأنه التعدّي
والكلبُ من شأنه الغلولُ
مقابح الكلب فيك طرّاً
يزولُ عنها ولا تزولُ
وفيه أشياءُ صالحاتٌ
حَماكَها الله والرسولُ
- الرمزية
الرمزية هي استعمال أدوات لغوية تعبر عن معاني مقصودة للشاعر، حيث يستخدم المفاهيم التاريخية والثقافية والدينية في قصائده لتوصيل تجربته الشعورية. مثال على ذلك هو ما قاله أحد الشعراء عن وزير المتوكل عبيد الله بن خاقان وكاتبه ابن يزداد، حيث استخدم آيات قرآنية من سورة التكوير للإشارة إلى خراب البلد في عهد الوزير:
وأن ابن يزداد لأحولٌ حُوّلٌ
ولكنه يقرأ (إذا الشمس كوّرت)
فقل لعبيد الله أحييت دولتي
مكاسير زمني (عُطّلت) فتحيّرت
وأنت إذا ميزت أبلد منهم
فصوتكم حي المنازل أقفرت
- الخيال
يساهم الخيال في تشكيل الصورة الفنية، مما يخلق تأثيراً مميزاً في الاستعارة. ومن الأمثلة على ذلك الشاعر البحتري الذي استخدم هذا الأسلوب في هجائه بقوله:
ويوم ولادك للتعزيات
ويوم وفاتك للتهنية
إذا المرء فيك سيئاً
أُثيب على حسن تلك النية
مواضيع الهجاء في الشعر العباسي
هجاء الخلفاء والوزراء وأصحاب الولايات
تمتع الشعراء في العصر العباسي بحرية أكبر في تناول الموضوعات الشعرية، خاصةً الهجاء، حيث تسامح الوزراء وولاة الأمصار مع النقد في العديد من الحالات، محاولين الرد عليه دون اللجوء إلى العنف. نجد أن المأمون لم يعاقب الشاعر دعبل الخزاعي على هجائه، حيث وجه النقد للخلفاء المعتصم والواثق بقوله:
خليفةٌ مات لم يحزن له أحدٌ
وآخر قام لم يفرح به أحد
فمر هذا ومر الشؤم يتبعه
فقام هذا فقام الشؤم والنكد
كما قيل في هجاء الوزير الخاقاني، الذي عُرف بسوء إدارته وأخذ الرشوة:
للدواوين مذ ولِيتَ عويل
ولمال الخراجِ سقمٌ طويل
يتلقى الخطوب حين ألمت
منك رأي غث وعقل ضئيل
هجاء المجتمع
تحول المجتمع الإسلامي من كونه مجتمعًا بسيطًا يضم العناصر العربية فقط في العصر الأموي إلى مجتمع مركب يختلط فيه العرب بالفرس والترك، مما ساعد على تحول الهجاء من القبلية إلى تناول قضايا المجتمع بشكل أوسع. ومن أقوال ابن دريد في هجاء المجتمع:
أرى الناس قد أغروا ببغيٍ وغيبةٍ
وغيٍ إذا ما ميز الناس عاقل
وقد لزموا معنى الخلاف فكلهم
إلى نحو ما عاب الخليقة مائل
إذا ما رأوا خيراً رموه بِظِنةٍ
وإن عاينوا شراً فكلٌ مناضل
تنافس الشعراء
ظهرت المنافسات الشعرية منذ بداية العصر العباسي، وغالبًا ما كانت المنافسة تأخذ طابعاً غير شعري، لكنها كانت تدور في ساحات الشعر. من بين هذه المنافسات، كانت المنافسات بين بشار بن برد وحماد عجرد، وكذلك بين دعبل الخزاعي وأبي تمام، وبين أبي نواس وأبان بن عبد الحميد، وأيضاً بين أبان بن عبد الحميد وعبد الصمد المعذل.
أبرز شعراء الهجاء في العصر العباسي
برز العديد من شعراء الهجاء في العصرين العباسي الأول والثاني، ومن بينهم:
أبو عيينة المهلبي
أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة، وقد أدرجه ابن المعتز بين الشعراء المطبوعين، حيث تأتيه المعاني بسهولة ودون تكلف. تميز أبو عيينة بهجاء أبناء عمومته من بني المهلب، وخاصةً القائد خالد بن يزيد بن حاتم، ومن هجائه لخالد:
أبوك لنا غيثٌ نعيش بوبله
وأنت جراد ليس يبقي ولا يذر
له أثر في المكرمات يسرنا
وأنت تعفي دائماً ذلك الأثر
تسيء وتمضي في الإساءة دائباً
فلا أنت تستحي ولا أنت تعتذر
عبد الصمد بن المعذل
عبد الصمد بن المعذل بن غيلان من بني عبد القيس، وقد برز في فن الهجاء، حيث هجا أخاه أحمد بعد أن عاد الأخير من الخليفة ومعه مال، فقال عبد الصمد:
ولما أن أتته دريهمات
من السلطان باع بهن ربه
كسبت أبا الفضول لنا معاباً
وعاراً قد شُملت به وسُبه
كما هجا أبو تمام من كثرة سؤال الخلفاء فقال:
أنت بين اثنتين تبرز للنا
س وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك طالباً لوصال
من حبيب أو طالباً لنوال
أي ماءٍ لحر وجهك يبقى
بين ذل الهوى وذل السؤال
الصيمري
أبو العنبس محمد بن إسحق، الذي تولى قضاء الصيمري، وفي مجلس الخليفة المتوكل هاجى البحتري بعد قصيدته، فقال رداً عليه:
فبأي عرض تعتصم
وبهتكه جف القلم
ولقد أسلت بوالدي
ك من الهجا سيل العرم
يا ابن الثقيلة والثقي
ل على قلوب ذوي النِعم
ابن بسام
علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام، من عائلة معروفة بالأدب والكتابة. كان لهجاء آثار واضحة بسبب تشيعه، حيث هجى خلفاء الدولة العباسية، بما في ذلك والده، الذي كان من عمال الخلفاء. فقال في هجاء والده:
بني أبو جعفر داراً فيشدها
ومثله لخيار الدور بناء
فالجوع داخلها والذل خارجها
وفي جوانبها بؤسٌ وضَرَاءُ
كما قال في الوزير عبيد الله بن سليمان بعد وفاة ابنه:
قل لأبي القاسم المرجى
قابلك الدهر بعجائبه
مات لك ابنٌ وكان زيناً
وعاش ذو الشين والمعايب
حياة هذا كموت هذا
فلست تخلو من المصائب