المبالغة في الشعر خلال العصر العباسي

المبالغة في الشعر العباسي

تعكس الأدب القصصي حقيقة الواقع، ولكنها تضيف لمسات فنية تهدف إلى تحسين الجمال وإيصال المعنى. وقد تجلت هذه اللمسات في شكل من أشكال المبالغة، وهو ما كان شائعاً في بعض قصائد الشعر العباسي. فقد تميزت هذه الفترة بإفراط الشعراء في استخدام المبالغة لأسباب متعددة تمليه طبيعة العصر والتغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها، مما أدى إلى ظهور مبالغة تفوق تلك التي كانت موجودة في العصر القديم.

تعريف المبالغة

يشير الجرجاني إلى هذا المفهوم بقوله: “إن الإفراط يمثل توجهًا عامًا بين المحدثين، ولكنه كان أيضًا موجودًا بصورة متكررة في الشعراء الأوائل”. ويضيف: “إن سعي المتأخرين للارتقاء والتفوق أدى بهم إلى تجاوز حدود السابقين، مما دفعهم للتوجه نحو الإفراط في التعبير والصفحات”.

تستخدم كلمة “مبالغة” كمصدر للفعل “بالغ”، حيث تعني تجاوز الحد في الكلام أو الممارسات، مثل الإفراط في تناول الطعام. وتعتبر المبالغة أيضًا زيادة على الحقيقة في الشعر، مما يؤدي إلى تزييف المعاني لأسباب شخصية لدى الشاعر. ومن الملاحظ أن قدامة بن جعفر، العالم والناقد المعروف، يعد من بين الأوائل الذين أطلقوا هذا المصطلح النقدي، في حين يُعرف بمصطلحات أخرى مثل “التبليغ” أو “الإفراط في الوصف”.

أسباب انتشار المبالغة في الشعر العباسي

يمكن تصنيف الأسباب التي أدت إلى شيوع المبالغة في العصر العباسي إلى قسمين كما يلي:

أسباب حضارية

تشمل هذه الأسباب جميع التغيرات التي طرأت على الحياة في العصر العباسي، مثل التحولات في نظام الحكم والتغيرات الاجتماعية. ويعتبر التحول الاجتماعي أحد أهم العوامل المؤدية إلى انتشار المبالغة، نظراً للصلة الوثيقة بين الحياة الاجتماعية والشعر. لقد تغير المجتمع العباسي بشكل كبير، إذ انتقل من مرحلة البداوة إلى مرحلة جديدة تتميز بالرفاهية والاختلاط بالثقافات الأخرى، مما أثر على الشعر والشعراء بشكل ملحوظ.

في هذا السياق، لم يعد بالإمكان محاكاة الشعر الجاهلي كما في السابق، حيث لم تعد المشاهد مثل الوقوف على الأطلال أو وصف الصحراء تتناسب مع الواقع الجديد الذي عاشته المجتمعات التي تسودها مظاهر الحضارة والرفاهية.

أسباب نقدية

كان النقاد العرب يسعون إلى حماية الأسلوب الشعري التقليدي، مما دفعهم إلى الدعوة المستمرة للالتزام بقيم ومعاني الكتابة القديمة. وقد أثرت هذه الضغوط على الشعراء العباسيين، الذين لم يجدوا بديلاً أمامهم سوى الالتجاء إلى المحسنات البديعية وتحوير المعاني القديمة.

لذا، فإن استخدام المحسنات البديعية يشكل نوعًا من الثورة ضد القيود النقدية المفروضة على الشعراء، مما أتاح لهم فرصة التجديد الشعري وكسر الجمود الذي فرضته الأساليب التقليدية، وكشف علاقات جديدة بين عناصر الشعر والأفكار.

أمثلة على المبالغة الشعرية في العصر العباسي

تتواجد العديد من النماذج للمبالغات الشعرية في هذا العصر، حيث استخدم الشعراء بكثرة المحسنات البديعية وابتكروا معاني جديدة. على سبيل المثال، يقول الشاعر أبو العتاهية في مدح الخليفة المهدي:

يا ناق خذي بنا ولا تهني

نفسك مما ترين راحات

حتى تنافي بنا إلى ملك

توجه الله بالمهابات

عليه تاجان فوق مفرقه

تاج جلال وتاج أخيات

يقول للريح كلما عصفت

هل لك يا ريح في مباراتي

ومن الأمثلة الأخرى قول الشاعر أبو نواس:

دع الأطلال تسفيها الجنوب

وتبلي عهد جدتها الخطوب

وخل لراكب الوجناء أرضاً

تخب بها النجيبة والنجيب

بلاد نبتها عشر وطلح

وأكثر صيدها ضبع وذيب

فلا تأخذ عن الأعراب لهواً

ولا عيشاً فعيشهم جديب

دع الألبان يشربها رجال

رقيق العيش بينهم غريب

إذا راب الحليب فبل عليه

ولا تحرج فما في ذاك حوب

ومن الغلو والمبالغة في الشعر العباسي قول المتنبي في مدح كافور الإخشيدي:

إن في ثوبك الذي المجد فيه

لعيناء يزري بكل ضياء

إنما الجلد ملبس وابيضاض الن

في خير من ابيضاض القباء

كرم في شجاعة وذكاء

وبهاء وقدرة في وفاء

من لبيض الملوك أن تبدل اللون

بلون الأستاذ والسحناء.

Scroll to Top