سبب نزول آية “لا إكراه في الدين”
- ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرَّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكَفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوِثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
- وقد ذُكِر أن نزول هذه الآية كان بسبب نساء الأنصار، حيث كنّ يحلفن بالله إذا توفي لهن ابن أن يجعلن منه يهودياً إذا كتبت له الحياة.
- عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة، كان هناك رجال من الأنصار قد أسلموا واعتنقوا اليهودية.
- فأنزل الله قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، بمعنى كما قال سعيد بن جبير أن من أراد الدخول في الإسلام من هؤلاء الرجال دخل، ومن أراد الخروج مع اليهود ذهب معهم.
- كما ذكر مجاهد أن سبب نزول الآية يتعلق برجل من الأنصار كان يُجبر غلاماً على اعتناق الإسلام.
- وقدم السدي ومسروق رواية عن رجل يُدعى أبو الحصين، كان يحاول اجبار أبنائه على الرجوع إلى دين الإسلام بعد أن اعتنقوا المسيحية نتيجة لقائهم مع تجار نصارى من الشام.
- وحينما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، نهاه أبو الحصين، ونزل قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
- وقال مجاهد أيضاً إن الآية نزلت في أبناء الأنصار الذين استرضعوا لدى اليهود وأرادوا العودة معهم أثناء إخراجهم من المدينة.
تفسير “لا إكراه في الدين”
- يقول الإمام ابن كثير في تفسيره للآية: إن هذه الآية تشير إلى عدم جواز إكراه أي شخص على الدخول في الإسلام، حيث أن الطريق إلى الإسلام واضح لمن يفتح الله صدره له.
- أما من أعمى الله قلبه وبصره عن الإسلام، فلن تفيده مكره على اعتناق الدين.
- هناك أيضًا تأكيد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، أما الكفار والمشركين، فيجب أولاً دعوتهم إلى الإسلام، فإن آمنوا فالحمد لله، وإن رفضوا، وجب جهادهم حتى يدخلوا الإسلام، ولا تُؤخذ منهم الجزية، حيث لم يطالب النبي ﷺ كفار العرب بها.
- أصحاب النبي عندما جاهدوا الكفار بعد وفاته ﷺ لم يأخذوا الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس.
- الدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: “فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثَ وَجَدْتُمُوهُمْ…” في سورة التوبة.
- لذا، لا يقبل من الكفار سوى الإسلام، باستثناء أهل الكتاب والمجوس.
- هناك أحاديث صحيحة عن رسول الله ﷺ تدعم هذا المعنى، ومنها قوله: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة…” متفق عليه.
تفسير الآية لابن كثير
- قال الله تعالى: (لا إكراه في الدين) أي لا تُجبروا أحدًا على اعتناق الإسلام، حيث أن طريقه واضح، وقد ذُكر أن سبب نزول هذه الآية يتعلق بمجموعة من الأنصار، ولكن حكمها عام.
- وذكر ابن أبي حاتم في سبب نزول الآية: حدثنا أبي، عن عمرو بن عوف، قال: أخبرنا شريك، عن أبي هلال، قال: كنت في دين المسيحية مملوكاً لعمر بن الخطاب، وكان يعرض عليّ الإسلام، فأرفض، فيقول: (لا إكراه في الدين) ويقول: “يا أسق لو أسلمت لاستعنت بك في بعض أمور المسلمين”.
تفسير الآية للبغوي
- ذكر مجاهد أن هناك بعض الأوس استرضعوا عند اليهود، وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة، قال أولئك الذين استرضعوا عندهم إنهم سيذهبون معهم لدينهم، لكن أهاليهم منعوهم، فنزلت (لا إكراه في الدين).
- وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار أبناء قد تنصروا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدما إلى المدينة مع مجموعة من النصارى، أصر عليهما والدهما وقال: “لا أدعكم حتى تسلما”، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- فقال: يا رسول الله، هل يدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فنزل الله تعالى (لا إكراه في الدين) فخلى سبيلهما.
تفسير الآية للطبري
- قال بعض المفسرين في سبب نزول الآية: إنها نزلت بسبب مجموعة من الأنصار الذين كان لديهم أبناء هودوا.
- أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام، أرادوا إكراههم عليه، فنهى الله تعالى عن ذلك.
- وقال آخرون: إن أهل الكتاب لا يُجبرون على الدين إذا دفعوا الجزية، لكنهم يبقون على دينهم. وآية (لا إكراه في الدين) تخص الكفار.
- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.
- قال: أُكره عليه هذا الحي من العرب، حيث كانوا أمة أمية لا كتاب لديهم، فلم يُقبل منهم غير الإسلام.
- ولا يُكره على ذلك أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية أو الخراج، ولم يفتنوا عن دينهم.
- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله: (لا إكراه في الدين).
- قال: هو هذا الحي من العرب، أُكرهوا على الدين، ولم يُقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قُبلت الجزية منهم ولم يُقتلوا.
تفسير الآية للجلالين
- (لا إكراه في الدين) تعني عدم إلزام أحد بالدخول في دين الإسلام، (قد تبين الرشد من الغي).
- أي أن الدين قد تضح برموزه الواضحة، حيث إن الإيمان طريق الحق والكفر ضلال.
- وقد نزلت هذه الآية في الأنصاري الذي أراد إجبار أولاده على الإسلام.
- (فمن يكفر بالطاغوت) والطاغوت هو كل ما يصرف عن طريق الخير، وهو مصطلح يشمل المفرد والجمع.
- (ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي تمسك بالإسلام، (لا انفصام لها والله سميع عليم).
- أي لا انقطاع لهذا الإيمان وأن الله سبحانه وتعالى سميع لما يُقال وعليم بما يُفعل.
كما يمكنكم التعرف على:
تفسير الآية للشعراوي
- يشرح الله سبحانه وتعالى أنه: “لا إكراه في الدين”.
- فالإكراه هنا هو أن تُلزم الآخرين على أعمال لا يرون فيها خيراً حتى يقوموا بها.
- ومع ذلك، هناك أمور قد نفعلها للآخرين من أجل مصلحتهم، كإجبار أبنائنا على المذاكرة.
- وهذا يُعتبر شيئاً إيجابياً لهم، وكذلك إجبار المريض على تناول الدواء.
- هذه الأمثلة ليست إكراهاً، بل هي أعمال نقوم بها لمصلحة مَن حولنا لأن لا أحد يرغب في أن يبقى مريضاً.
- الإكراه هو إجبار الآخرين على القيام بأفعال لا يرونها جيدة.
- فالله سبحانه وتعالى يقول: (لا إكراه في الدين)، أي إنه لم يُجبر عباده على الدين وهو خالقهم.
- الله عز وجل قال: (لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)، مما يعني أنه من المحتمل أن يخلق الله عباده جميعًا ويُجبرهم إن أراد على الدين.
- لكن الله جل وعلا يريد أن يأتي إليه من يختاره بمحبة وليس بإكراه.
- وبذلك، فإن آية (لا إكراه في الدين) تُظهر أن الله لم يُشرع مبدأ الإكراه، فلو شاء الله لآمن الجميع على هذه الأرض.
- الله عز وجل يقول: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
تفسير الآية للقرطبي
تباينت آراء الفقهاء حول هذه الآية، وتم جمع الاقتراحات في النقاط التالية:
أولاً: قيل إنها منسوخة
- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أجبر العرب على الدخول في الإسلام وقاتلهم ولم يقبل منهم إلا الإسلام. وهذا ما قاله سليمان بن موسى، مُشيراً إلى أنه قد نسخها “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين”. وقد رُوي هذا عن ابن مسعود والعديد من المفسرين.
ثانيًا: قيل إنها ليست منسوخة
- فهي نزلت وشملت أهل الكتاب، الذين لا يُجبرون على الإسلام إذا دفعوا الجزية، بينما يُكره الكفار الوثنيون حتى لا يقبل منهم سوى الإسلام.
- هذا ما يستند إليه من قالوا إن الآية تتعلق بالكفار، وقد تبيّن في قوله: “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين”. وهذا القول يروى عن الشعبي، وقتادة، والحسن، والضحاك.
- لدعم هذا القول، رواية زيد بن أسلم عن أبيه بأن عمر بن الخطاب قال لامرأة نصرانية: “أسلمي تَسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق.” أُجابت: “أنا امرأة كبيرة، وقد اقترب موعد موتي.” فقال عمر: “اللهم اشهد”، وتلا آية (لا إكراه في الدين).
ثالثًا
- قيل إن المقصود هو أنه لا تقولوا لمن أسلم تحت الضغط مكرهًا.
رابعًا
- قيل إنها تتعلق بالسبي، فالرجال من أهل الكتاب يُقبلون في حال دفعهم الجزية ولا يُجبرون، بينما الصغار أو الوثنيون يُجبرون على الإسلام.
- لأنهم لا يتركون فائدة، حيث لا تُقبل ذبائحهم ولا يمكن الزواج من نسائهم، فضلاً عن أنهم يستكشفون النجاسات.
- هذا ما رُوي عن ابن القاسم من الإمام مالك، بينما قالت أشهب أنهم على دين من سَبَهم، فإذا كانوا كبارًا ولم يعودوا أُجبروا على الإسلام.
خامسًا
- أما أنواع الكفر الأخرى، فعند تقديم الجزية، فلا يُكرهوا على الدين، سواء كانوا من العرب أو من قريش أو غيرهم.
- قوله تعالى: “فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله” هو تأكيد على الشرط، حيث قيل إن الطاغوت هو الكاهن والشيطان، وكل ما يقود إلى الضلال.
- (ويؤمن بالله) هو تابعة للمعنى المطروح، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) يعد استجابة للشرط. وقد اختلف المفسرون في معنى العروة، حيث قال مجاهد: الإيمان، والسدي: الإسلام، بينما قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أنها تعني “لا إله إلا الله”، وهذا كله له مغزى واحد.
- ثم قال الله تعالى (لا انفصام لها) حيث فسرها مجاهد بأنها تعني أنه لن يتغير حال القوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يُزال الإيمان إلا بكفرهم.
نسخ آية “لا إكراه في الدين”
- قال بعض العلماء إن هذه الآية قد تم نسخها بالقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، وهو ما استند إليه البعض من قتال الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين في مكة، حيث لم يُقبل منهم إلا الدخول في الإسلام.
- ولكن هناك من يرى مثل الشعراوي والضحاك أنها لم تُنسخ، بل تخص أهل الكتاب الذين لا يُجبرون على الدين الإسلامي طالما أنهم يؤدون الجزية.