بحث في السنة النبوية
تُعرف السنة في اللغة بأنها الطريق المُعتمد، سواءً كان ذلك محسوساً أو معنوياً. نقل محمد الأشقر في كتابه عن شمر أن السنة تمثل طريقًا أسسها الأوائل، لتصبح مسلكا للأجيال اللاحقة. تشمل السنة أنواعًا متعددة من الطرق، سواء كانت حسنة أو ذميمة، وجمعها يحمل اسم سُنن. من أمثلة ذلك حديث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (مَن سَنَّ في إسلام سُنّة حسنة فعُمِل بها بعده، كُتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء). أما في التعريف الاصطلاحي، فقد تباينت الآراء من قِبل العلماء حول السنة، وإليك أهم التعريفات:
- في تعريف المحدثين: السنة هي كل ما نُسِب للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فعلٍ أو صفة، سواء كانت خلقية أو خلقية، بالإضافة لما يتعلق بمسيرته الشريفة قبل البعثة.
- في تعريف الأصوليين: السنة تشمل كل ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال غير القرآن الكريم.
- عند الفقهاء: السنة تتضمن النوافل والمندوبات، وكل ما يُتقرب به إلى الله -تعالى- بخلاف الفرائض، وهي جزء مما يعرف بالأحكام الخمسة.
تُستخدم كلمة السنة أيضاً في مواجهة البدعة، مما يشمل كافة تعاليم الشريعة من قرآن كريم وأحاديث صحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والاجتهاد الصحيح، مما يُشير إلى أهل السنة لتمييزهم عن أهل البدع، سواء في الأعمال أو الاعتقادات. وفي هذا السياق، قال النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في مواجهة السنة بالبدعة: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). ومن هنا كانت السنة تُشير في عصورها الأولى إلى طريقة الخلفاء الراشدين وتوجيهات النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
تباينت آراء العلماء في تعريف السنة وفقًا للاختصاصات المختلفة؛ إذ ينظر علماء الحديث إلى السنة عمومًا، بغض النظر عن استنباط الأحكام منها، بينما يركز الأصوليون على الفهم التشريعي للنبيمحمد -عليه الصلاة والسلام- وما قام بوضعه من قواعد للمجتهدين من بعده. أما الفقهاء، فيوليهم اهتمامًا بالأحكام الشرعية.
حجية السنة النبوية
تُعتبر السنة النبوية من الأصول الأساسية للشريعة التي تدل على الأحكام الشرعية. فقد أشار الشوكاني إلى أن ثبوت حجيتها واستقلالها في تشريع الأحكام هو أمر ضروري، ولا ينكره إلا من لا حظ له في الإسلام. أما تلك الادعاءات التي تطالب بالاعتماد على القرآن الكريم وحده، دون الحاجة للسنة النبوية، فهي تتعارض مع ما كان عليه النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-. وقد تصدى لهذا الأمر الأئمة الأربعة، حيث لا يجوز العمل بالسنة النبوية بمعزل عن القرآن، إذ أن كليهما مكملان لبعضهما البعض.
وقد اتفق العلماء على ثبوت حجية السنة النبوية واعتبروا أنها إحدى مصادر الأحكام الشرعية، وهذا مثبت بالأدلة في القرآن الكريم، وإجماع الصحابة والمعقول، سواء كان ذلك في مجال البيان أو الاستقلال. ومن هذه الأدلة نُذكر:
- الأدلة من القرآن الكريم، ومنها:
- قول الله -تعالى-: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
- قول الله -تعالى-: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
- قول الله -تعالى-: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فرُدوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)؛ حيث أن الرد إلى الله -تعالى- هو العودة إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- هو التوجه إلى سنته المطهرة.
- الأدلة من إجماع الصحابة: إذ لم يُفرّق الصحابة الكرام بين الأحكام الثابتة في القرآن الشامل أو الأحكام المشرعة بالسنة. فقد أعطى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الجدة السدس من الميراث استنادًا إلى ما سمعه من النبي، رغم عدم ذكر ميراثها في القرآن الكريم، مما يُعزز فكرة أن الحكم الثابت في السنة هو مستند من القرآن.
- الأدلة العقلية وإجماع الأمة: إن اعتبار الحكم الثابت بالسنة النبوية بمثابة الحكم الثابت في القرآن هو أمر مُتعارف عليه بين المجتهدين، وقد جرت العادة في الأمة على حجية السنة واستقلالها في التشريع.
أهمية السنة النبوية ووظيفتها
تظهر أهمية السنة النبوية ووظيفتها في عدة جوانب، وفيما يلي توضيح أبرزها:
- العلاقة الوثيقة بين السنة النبوية والقرآن الكريم: فالسنة توضح ما جاء في القرآن وتفسيره، فتفسر ما يتعذر فهمه، وتُقيّد مطلقه وتخصص عُمومه، وتُظهر أحكامه، كما قال الله -تعالى-: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون).
- السنة النبوية كمرجع ثانٍ: فهي تُعتبر المرجع الثاني في الشريعة الإسلامية في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الغيب والأحكام العملية والتربوية، وغير ذلك.
- استقلالية السنة النبوية في التشريع: إذ يمكن أن تُشرَّع أحكامًا مستقلة عن القرآن الكريم، كما هو الحال في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، حيث أن السنة النبوية وضعت أحكامًا لم يوضحها القرآن، فضلاً عن تفسير ما يصعب فهمه من القرآن.
- تطبيق نصوص القرآن الكريم: ذلك أنه لا يمكن تطبيقها إلا من خلال فهم نصوصها كما تجلى في السنة النبوية.
تدوين السنة النبوية
بدايات تدوين السنة
في البداية، كان النبي محمد -عليه الصلاة والسلام- قد نهى الصحابة عن كتابة السنة النبوية، وذلك لتفادي اختلاطها بالقرآن. وقد قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليُمحِه، وحدِّثوا عني ولا حرج). وبناءً على ذلك، امتثل الصحابة لهذا الأمر، ولم يكتبوا شيءً من السنة باستثناء بعضهم، لكن كتبوا بشكل فردي، مثل عمرو بن العاص.
قد تكفّل الله -تعالى- بحفظ القرآن والسنة، كما ذكر في قوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وقد أشار ابن حزم وآخرون إلى أن الذكر يشمل القرآن والسنة. كان حفظ السنة في البداية من خلال حفظها في صدور الصحابة، وكتابة بعضهم لها، وكانت تلك التعليمات بشأن الكتابة فقط في البداية، وسمح لبعض الصحابة بكتابتها لاحقًا.
وجاء عن الإمام البخاري أن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- سفر لمدة شهر إلى عبد الله بن أنيس بسبب حديث واحد. وكان الصحابة يتأكدون من صحة الحديث ويدققون في سلسلة الإسناد ورواة الحديث. وقد ورد عن ابن سيرين أنه قال: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، ولكن لما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، وعُدّ أهل السنة في هذه الحالة لم يتم الأخذ بروايات أهل البدع.”
التدوين الرسمي للسنة
في سنة 99 هـ، خلال خلافة عمر بن عبد العزيز، تم إصدار أمر بجمع السنة وتدوينها بصورة رسمية، وذلك بناءً على توجيهات محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهو عالم حجازي وشامي. ونمت حركة التدوين بعد ذلك، حيث قام عدد من العلماء بجمع الأحاديث في أماكن مختلفة، مثل ابن جريج في مكة، وابن إسحاق في المدينة، والأوزاعي في الشام. وتميزت هذه المرحلة بدمج الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، كما في موطأ الإمام مالك. وبعد ذلك، برز بعض العلماء الذين كتبوا السنة فقط بشكل مستقل.
العصر الذهبي لتدوين السنة
العصر الذهبي في تدوين السنة هو القرن الثالث الهجري، حيث ظهر فيه العديد من العلماء الذين خصصوا حياتهم لجمع السنة مثل الإمام البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وقد اتبعوا في جمعهم أسسًا رئيسية مثل التحقق من الأحاديث ودقتها، تطبيقًا لقوله -تعالى-: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتندموا). وكان معظم الصحابة يتجنبون رواية الأحاديث لحرصهم على تدقيق الروايات، وذلك لأن الإكثار منها قد يؤدي إلى الخطأ، وهذا قد ينجم عنه تداعيات خطيرة في السنة.
يُعتبر القرن الثالث الهجري من أهم الفترات في تاريخ السنة، حيث أطلق عليه “العصر الذهبي للسنة” بسبب التنمية الكبيرة في تدوين الأحاديث، الاهتمام بعلم الرجال، وأيضًا العلل وفقه الحديث. ومن بين العلماء الذين أبدعوا في هذا المجال، أسد بن موسى الأموي، أحمد بن منيع البغوي، أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وقد كانت حدود القرن الرابع الهجري تواصلًا لما قبله في تثبيت الاهتمام بالسنة من جميع جوانبها.
أنواع السنة النبوية
تتكون السنة من ثلاثة أنواع رئيسية، وهي كالتالي:
- السنة القولية: تُعتبر أقوى أنواع السنة من حيث الحجية والدلالة على الأحكام، لذا تُقدم على الأنواع الأخرى. وهي تشمل أقوال النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-، مثل قوله: (إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة محاسنكم أخلاقكم، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا مساوئكم أخلاقكم الثرثارون المتشدقون المتفيهقون).
- السنة الفعلية أو العملية: وهي الأفعال التي نُقلت لنا عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، مثل اضطجاعه على يمينه بعد صلاة الفجر. وتتناول السنة الفعلية عدة جوانب؛ حيث إن الأصل هو الاستحباب، وليس الوجوب، كما يتضح من عدم خروج النبي أمام الصحابة في اليوم الرابع لصلاة التراويح خوفًا من فرضها عليهم. ومن الأمور الهامة في هذا الجانب:
- بعض أفعال النبي تخصه، مثل الزواج بأكثر من أربع نساء، ووصاله في الصيام ليومين أو ثلاثة دون إفطار.
- أفعاله تفسر الأحكام؛ فإن بين الواجب فهو واجب، وإن كانت مستحبة فهي مستحبة، كما أفاد النبي الصحابة بخصوص المناسك.
- بعض الأفعال تنبع من طبيعته، وليس بالضرورة أن تكون سنة متبعة، مثل الأكل باليد والاكتحال، ولكن عندما تقترن بالنية تصبح عبادة.
- السنة التقريرية: وتتطلب تقديرًا تجاه الفعل إذا تعارضت معه؛ حيث يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة يفعل شيئًا يتعلق بحكم شرعي، فيقوم بالإقرار بذلك، أو يرصد قولًا له علاقة بحكم شرعي ويقره أو يسكت ولا ينكره، أو يظهر رضاه مثلما فعل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما تكلم بصفة الجنب في ليلة باردة فتيمم مع وجود الماء. ولما حضر إلى النبي وروى القصة، تبسم له، مما يدل على إقراره، كما أكل الصحابة الضب أمام النبي دون أن ينكر عليهم ذلك.