فهم التدوين والحديث النبوي
يعبر مفهوم التدوين في اللغة عن عملية جمع النصوص المتفرقة والمشتتة ضمن سجل واحد. وفي سياق العلوم الدينية، يُشير التدوين إلى عملية التصنيف والتأليف، مما يعني أن تدوين الحديث يشمل تسجيل وترتيب ما نُقل عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- من أقوال وأفعال وتقرير. والحديث النبوي يُعرّف بأنه كل ما ينسب إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- سواء كان قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو صفة خلقية أو خلقية.
خطوات تدوين الحديث
مرّت عملية تدوين الحديث النبوي عبر مرحلتين رئيسيتين، كما يلي:
- المرحلة الأولى: كان الصحابة يقبلون بصورة كبيرة على حفظ كل ما يقوله النبي -صلى الله عليه وسلم- والعمل بتوجيهاته. وحرصاً منه -صلى الله عليه وسلم- على عدم اختلاط القرآن بغيره، أوقف في البداية الصحابة عن كتابة الأحاديث، وسمح لبعضهم، مثل عبد الله بن عمرو بن العاص، بكتابة بعض الروايات. وفي زمن الخلفاء الراشدين، استمر الوضع كما هو، إذ كانت السنة مُتناقلة بين الناس ولكن لم تُجمع بعد. ومع توسع الدولة الإسلامية على الأصعدة كافة، وازدياد الحاجة لفهم هدي النبي وسنته، أدركت الحاجة الملحة لتدوين السنة، فأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بجمعها، وتم تنظيم السنن في مجالات التفسير والسير والعقيدة والمعاملات، وكان من أبرز العلماء في هذا المجال محمد بن شهاب الزهري.
- المرحلة الثانية: بدأت هذه المرحلة في بداية القرن الثاني الهجري، حيث بدأ التخصص في كتابة العلوم، وأصبحت كتب السنة تُعد بشكل مستقل عن كتب الغزوات والتفسير والفقه. وقد وضع أئمة الحديث معايير مختلفة في تدوين السنة النبوية بناءً على اجتهاداتهم وأفكارهم.
أبرز دواوين السنة لدى المسلمين
تنوّعت طرق العلماء في تدوين السنة النبوية، ومن الطرق الأشهر ما يلي:
- كتب الحديث الصحيح فقط: وأبرز هذه الكتب هو صحيح البخاري وصحيح مسلم.
- كتب الحديث الصحيحة والحسنة والضعيفة: من أبرز هذه الكتابات: كتب السنن الأربعة ومسند أحمد.
- كتب الحديث الضعيف والموضوع: حيث صنف بعض العلماء كتباً تتحدث عن الضعفاء، مثل كتاب “الضعفاء” لابن حبان، وكتب أخرى تناولت أنواع محددة من الأحاديث الضعيفة، مثل “المراسيل” لأبي داود و”الموضوعات” لابن الجوزي.
أبرز العلماء الذين قاموا بتدوين السنن
قدّم العديد من علماء المسلمين جهوداً كبيرة في جمع سنّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتدوينها، ومن أبرز هؤلاء الأئمة:
- أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَردِزبَة البخاري: وُلِد في بخارى عام 194هـ، نشأ يتيمًا وحفظ العديد من الأحاديث قبل بلوغه العاشرة، ثم انطلق في رحلات لجمع الحديث النبوي من خلال لقاءاته مع مئات المشايخ. جمع حوالي ستين ألف حديث، ثم اختار الأصح بينها ودونها في كتابه “الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه”. توفي عام 256هـ عن عمر يناهز اثنين وستين عاماً.
- أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري: وُلِد في نيسابور عام 204هـ، ودرس العلم فيها، ثم سافر إلى العراق والحجاز لاستكمال دراسته في الحديث. استغرق تأليف كتابه خمسة عشر عامًا، ويُعتبر أصح كتب الحديث بعد صحيح البخاري. توفي عام 261هـ عن سبعة وخمسين عاماً.
- أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني: أحد الأئمة الكبار في الحديث وُلِد عام 202هـ، رحل إلى العديد من البلدان لسماع الحديث مثل الحجاز والعراق ومصر. صنف كتاب “السنن” بمعدل خمسة آلاف وثلاثمئة حديث تقريبًا، وتوفي عام 275هـ.
- أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي: وُلِد عام 209هـ في ترمذ، وتطوّف في العديد من المدن الإسلامية لجمع الأحاديث. صنف كتابه “الجامع” الذي يتناول الأحاديث الفقهية بشكل خاص. أصيب بالعمى في آخر عمره وتوفي عام 279هـ عن سبعين عاماً.
- أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي: وُلِد عام 215هـ في مدينة نسا، وكان عالماً في علم الجرح والتعديل. استقر في مصر، ثم انتقل إلى دمشق حيث توفي عام 303هـ.
- أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني: وُلِد عام 209هـ في قزوين، وسُمي ابن ماجه، رحل إلى بلدان عدة مثل البصرة والكوفة ومصر. ألف العديد من الكتب بما فيها كتاب “السنن” وتوفي عام 273هـ عن عمر يناهز أربع وستين عاماً.