التشبيه في شعر البحتري وخصائصه
تميز البحتري بقدرته على استحضار التشبيهات والصور الفنية في شعره، لا سيما في مجالات الوصف، حيث يعتبر واحدًا من أبرز الشعراء العرب في هذا الفن. ومن الصفات البارزة المتعلقة بالتشبيه في شعره ما يلي:
- اعتماد ألفاظ دقيقة لإظهار الجانب التعبيري والفني.
- الوصف الدقيق وسعة الخيال، حيث يتناول جمال الطبيعة بحرفية مميزة، مثل جمال الرياض والسماء والربيع.
- تنوع الأساليب البلاغية واستخدام التكرار البلاغي، مثل التوازي بين الصدر والعجز مما يخلق تشبيهات رائعة.
أمثلة على التشبيه في شعر البحتري
كثرت أشكال التشبيهات في شعر البحتري، وفيما يلي نماذج من شعره مع توضيح التشبيهات:
قصيدة “ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها”
قال البحتري:
يا مَن رَأى البِركَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها
وَالآنِساتِ إِذا لاحَت مَغانيها
بِحَسبِها أَنَّها مِن فَضلِ رُتبَتِها
تُعَدُّ واحِدَةً وَالبَحرُ ثانيها
ما بالُ دِجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها
في الحُسنِ طَورًا وَأَطوارًا تُباهيها
أَما رَأَت كالِئَ الإِسلامِ يَكلَؤها
مِن أَن تُعابَ وَباني المَجدِ يَبنيها
كَأَنَّ جِنَّ سُلَيمانَ الَّذينَ وَلوا
إِبداعَها فَأَدَقّوا في مَعانيها
فَلَو تَمُرُّ بِها بَلقيسُ عَن عُرُضٍ
قالَت هِيَ الصَرحُ تَمثيلًا وَتَشبيها
تَنحَطُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعجَلَةً
كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها
كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً
مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها
إِذا عَلَتها الصَبا أَبدَت لَها حُبُكًا
مِثلَ الجَواشِنِ مَصقولاً حَواشيها
فَرَونَقُ الشَمسِ أَحياناً يُضاحِكُها
وَرَيِّقُ الغَيثِ أَحياناً يُباكيها
إِذا النُجومُ تَراءَت في جَوانِبُها
لَيلاً حَسِبتَ سَماءً رُكِّبَت فيها
لا يَبلُغُ السَمَكُ المَحصورُ غايَتَها
لِبُعدِ ما بَينَ قاصيها وَدانيها
يَعُمنَ فيها بِأَوساطٍ مُجَنَّحَةٍ
كَالطَيرِ تَنفُضُ في جَوٍّ خَوافيها
لَهُنَّ صَحنٌ رَحيبٌ في أَسافِلِها
إِذا اِنحَطَطنَ وَبَهوٌ في أَعاليها
صورٌ إِلى صورَةِ الدُلفينِ يُؤنِسُها
مِنهُ اِنزِواءٌ بِعَينَيهِ يُوازيها
تَغنى بَساتينُها القُصوى بِرُؤيَتِها
عَنِ السَحائِبِ مُنحَلّاً عَزاليها
كَأَنَّها حينَ لَجَّت في تَدَفُّقِها
يَدُ الخَليفَةِ لَمّا سالَ واديها
وَزادَها زينَةً مِن بَعدِ زينَتِها
أَنَّ اِسمَهُ حينَ يُدعى مِن أَساميها
مَحفوفَةٌ بِرِياضٍ لا تَزالُ تَرى
ريشَ الطَواويسِ تَحكيهِ وَيَحكيها
وَدَكَّتَينِ كَمِثلِ الشِعرَيَينِ غَدَت
إِحداهُما بِإِزا الأُخرى تُساميها
من التشبيهات التي تضمنتها قصيدة “ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها” تشمل:
- البِركَةَ الحَسناءَ
هنا، شبّه البحتري البركة بالفتاة الحسناء، حيث تم حذف المشتبه به مع الاحتفاظ بعناصره كاستعارة مكنية.
- دِجلَةَ كَالغَيرى تُنافِسُها في الحُسنِ
في هذا التشبيه، قارن بين دجلة والمرأة الغيرى التي تُظهر منافسة، حيث تم ذكر المشتبه والمشتبه به وأداة التشبيه ووجه الشبه، مما يشير إلى وجود تشبيه تام.
- تَنحَطُّ وُفودُ الماءِ مُعجَلَةً كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها
في هذا المثال، تم تشبيه انحدار الماء في البركة بالخيل التي تُحرر من اللجام، مع ذكر كافة عناصر التشبيه.
- كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً تَجري في مَجاريها
تشبيه ماء البركة بالفضة المُذابة، حيث يشتمل أيضًا على جميع عناصر التشبيه.
- رَونَقُ الشَمسِ يُضاحِكُها
شبّه ضوء الشمس كما لو كان إنسانًا يُداعب الآخرين، حيث تم حذف المشتبه به مع الحفاظ على عناصره كاستعارة مكنية.
قصيدة “رحلت وأودعت الفؤاد لواحظا”
قال البحتري:
رَحَلَت وَأَودَعَتِ الفُؤادَ لَواحِظًا
توهي القُوى وَإِشارَةً بِبِنانِ
خَودٌ كَبَدرٍ فَوقَ فَرعِ أَراكَةٍ
يَهتَزُّ مَثنِياً عَلى كُثبانِ
لَمياءُ تَبسِمُ عَن شَتيتٍ واضِحٍ
كَالأَريِ يَروي غُلَّةَ الصَديانِ
فَتَنَتكَ بِالدَلِّ الرَخيمِ وَلَم تَزَل
كَلِفاً بِكُلِّ رَخيمَةٍ مِفتانِ
وَشَجَتكَ بِالتَفريقِ ظُعنُ فَريقِها
فَظَعَنتَ إِلّا الشَجوَ في الأَظعانِ
ظَلَّت دُموعُكَ في طُلولٍ بُدِّلَت
بِضِيائِها ظُلَماً إِلى ظَلمانِ
إِنَّ الغَرائِرَ يَومَ جَرعاءِ الحِمى
أَغرَينَ دَمعَ العَينِ بِالهَمَلانِ
غادَرنَ عَقلَ أَبي عِقالٍ ذاهِبًا
وَوَقَفنَ مُهجَتَهُ عَلى الأَشجانِ
لَم يَغنَ في تِلكَ المَغاني بَعدَهُم
بَل ما غَناءُ مَعاهِدٍ وَمَغانِ
يا دارُ جادَ رُباكَ جودٌ مُسبِلٌ
وَغَدَت تَسُحُّ عَلَيكَ غادِيَتانِ
فَدَعِ ادِّكارَكَ مَن نَأى وَانعَم فَقَد
دامَت لَنا اللَذاتُ في دامانِ
وَالمَرجُ مَمروجُ العِراصِ مُفَوَّفٌ
تَزهى خُزاماهُ عَلى الحَوذانِ
وَالرَقَّةُ البَيضاءُ كَالخَودِ الَّتي
تَختالُ بَينَ نَواعِمٍ أَقرانِ
مِن أَبيَضٍ يَقَقٍ وَأَصفَرَ فاقِعٍ
في أَخضَرٍ بَهِجٍ وَأَحمَرَ قانِ
ضَحِكَ البَهارُ بِأَرضِها وَتَشَقَّقَت
فيها عُيونُ شَقائِقِ النُعمانِ
وَتَنَفَّسَت أَنفاسُ كُلَّ قَرارَةٍ
وَتَغَنَّتِ الأَطيارُ في الأَفنانِ
فَكَأَنَّما قَطَرَ السَحابُ عَلى الثَرى
عِطراً فَأَذكاهُ ذَكاءَ بَيانِ
وَزَكَت مَعالِمُ دَيرِزَكّى بَعدَ أَن
وَسَمَت يَدُ الوَسمِيِّ كُلَّ مَكانِ
بِعَرائِسٍ خُضرِ الغَلائِلِ تَرتَمي
بِنَواظِرٍ نُجلٍ مِنَ العِقيانِ
وَجُفونِ كافورٍ أَعادَ بِها الصَبا
ضَعَفاً فَهُنَّ مَرائِضُ الأَجفانِ
من التشبيهات في قصيدة “رحلت وأودعت الفؤاد لواحظا” ما يلي:
- لَمياءُ تَبسِمُ عَن شَتيتٍ واضِحٍ
شبّه ابتسامة المحبوبة كانها الندى الذي يُروي العطشان، مع ذكر جميع عناصر التشبيه.
- وَالرَقَّةُ البَيضاءُ كَالخَودِ الَّتي
هنا، شبّه مدينة الرقة بالفتاة المتمايلة، حيث تم الإشارة إلى المشتبه والمشتبه به ووجه الشبه والأداة.
- ضَحِكَ البَهارُ
في هذا التشبيه، تم مقارنة البهار بالإنسان الضاحك، حيث تم حذف المشبه به مع الاحتفاظ بعناصره كاستعارة مكنية.
قصيدة “يكاد عاذلنا في الحب يغرينا”
قال البحتري:
إِنّي رَأَيتُ جُيوشَ النَصرِ مُنزَلَةً
عَلى جُيوشِ أَبي الجَيشِ بنِ طولونا
يَومَ الثَنِيَّةِ إِذ يَثني بِكَرَّتِهِ
في الرَوعِ خَمسينَ أَلفًا أَو يَزيدونا
وَالحَربُ مُشعَلَةٌ تَغلي مَراجِلُها
حيناً وَيَضرَمُ ذاكي جَمرِها حينا
يَغدو الوَرى وَهُمُ غاشو سُرادِقِهِ
صِنفَينِ مِن مُضمِري خَوفٍ وَراجينا
وَالناسُ بَينَ أَخي سَبقٍ يَبينُ بِهِ
وَفاتِرينَ مِنَ الغاياتِ وانينا
كَما رَأَيتُ الثَلاثاءاتِ واطِئَةً
مِنَ التَخَلُّفِ أَعقابَ الأَثانينا
عَمَّرَكَ اللَهُ لِلعَلياءِ تَعمُرُها
وَزادَكَ اللَهُ إِعزازاً وَتَمكينا
ما اِنفَكَّتِ الرومُ مِن هَمٍّ يُحَيِّرُها
مُذ جاوَرَت عِندَكَ العَزّاءَ وَاللينا
تَدنو إِذا بَعُدوا عِندَ اِشتِطاطِهُمُ
كَيداً وَتَبعُدُ إِن كانوا قَريبينا
حَتّى تَرَكتَ لَهُم يَوماً نَسَختَ بِهِ
ما يَأثُرُ الناسُ مِن أَخبارِ صِفّينا
مَصارِعٌ كُتِبَت في بَطنِ لُؤلُؤَةٍ
مِن ظَهرِ أَنقَرَةِ القُصوى وَطِمّينا
من التشبيهات التي وردت في قصيدة “يكاد عاذلنا في الحب يغرينا” تشمل:
- جُيوشَ النَصرِ
شبّه النصر بالملك الذي تَتبع له الجيوش، مما يشير إلى استعارة مكنية.
- وَالحَربُ مُشعَلَةٌ تَغلي مَراجِلُها
هنا، تم تشبيه الحرب بالنار المشتعلة، حيث تم حذف المشتبه به واحتفاظ بعناصره كاستعارة مكنية.
- ظَهرِ أَنقَرَةِ
هذا المثال يقارن مدينة أنقرة بجسم له ظهر، مبرزًا استعارة مكنية أيضًا.