التحرر الفكري والانحلال الأخلاقي في الفترة المتأخرة من العصر العباسي

مقدمة حول المجون والزندقة في العصر العباسي الثاني

تشهد ظاهرة المجون والزندقة في العصر العباسي الثاني استمرارًا – بل وزيادة – مقارنة بالعصر العباسي الأول. فيما يلي بعض السمات العامة التي تعكس تلك الفترة:

  • على الرغم من تحذر القرآن الكريم ضد تناول الخمر، فإن النشاطات المرتبطة بشربه شهدت تزايدًا كبيرًا، حيث أدمن العديد من الأفراد على الخمر بشكل مفرط. تم تنظيم مجالس الشرب في المساء والليل وحتى في الصباح.
  • بذل عدد من الفقهاء في العراق جهودًا لتحليل بعض أنواع النبيذ غير المسكر، مثل نبيذ التمر والعسل والتين والزبيب المُطهى بشكل خفيف، مما جعل الناس – بما فيهم الخلفاء – يتناولونها. كما قال ابن الرومي في هذا السياق:

أباحَ العراقيُّ النبيذَ وشُربَه

وقال الحرامانِ المُدامةُ والسكُرُ

وقال الحجازيُّ الشرابانِ واحدٌ

فحلَّ لنا بينَ اختلافِهما الخَمرُ

سآخذُ من قولَيهما طَرفَيَهما

وأشربُها لا فارقَ الوازرَ الوِزرُ

  • شكلت قصور الخلفاء والأمراء والوزراء وكبار الشخصيات مجتمعات للمنادمة والشراب واللهو والغناء. وكان العديد من الخلفاء، مثل المتوكل، يستمتع بشرب الخمر بين رفاقه مع وجود مغنين يرفهون عنهم. كما تواطأ بعض القضاة في هذا الأمر عبر النبيذ المحلل، بالإضافة إلى انغماس العديد من علماء اللغة في هذا النمط من الحياة، مثل (ابن دريد).
  • امتلأت البساتين المحيطة ببغداد بالحانات، حيث توافد الشعراء والأشخاص إلى هذه الأماكن للشراب ومغازلة الجواري. وكان البعض يتجه إلى زوايا هذه البساتين الخاصة بهم، للاستمتاع بشرب المنكرات وسط جمال الطبيعة. وقد أبدع العديد من الشعراء في تصوير هذه التجارب، كما فعل البحتري قائلاً:

فَاِشرَب عَلى زَهرِ الرِياضِ يَشوبُهُ

زَهرُ الخُدودِ وَزَهرَةُ الصَهباءِ

مِن قَهوَةٍ تُنسي الهُمومَ وَتَبعَثُ الـ

شَوقَ الَّذي قَد ضَلَّ في الأَحشاءِ

  • كانت الأعياد، سواء كانت إسلامية أو فارسية أو نصرانية، تشبه الكرنفالات، حيث كان سكان بغداد وأخرى من المدن العراقية يخرجون للترفيه والاستمتاع بمشاهدة القصاصين والحكائين وأصحاب المساخر. وكان الشعراء يرافقون أحداث عصرهم، مثل البحتري الذي هنأ الخليفة المعتمد بعيد النيروز (وهو بداية السنة الفارسية) قائلاً:

لا تَخلُ مِن عَيشٍ يَكُرُّ سُرورُهُ

أَبَداً وَنَيروزٍ عَلَيكَ مُعادِ

العوامل المؤثرة في انتشار المجون والزندقة في العصر العباسي الثاني

أسهمت عدة عوامل في تفشي ظاهرة المجون والزندقة في العصر العباسي الثاني، ومن أبرز هذه العوامل:

  • تطور الدولة العباسية وتوافر الموارد الطبيعية وغيرها.
  • اتساع النفوذ الفارسي وتأثيرهم في الحكم، حيث اشتهروا بحبهم للحياة الباذخة واللهو.
  • تأثر العرب بأساليب حياة الفرس وأعيادهم، مما أدى إلى تقليدهم في المظاهر والأسلوب.
  • ميل بعض الحكام العباسيين إلى حياة الترف واللهو.
  • اقتناء العرب للجواري، مما ساهم في تعزيز المجون واللهو بسبب مهاراتهن في الغناء وإقامة الحفلات.
  • الانفتاح على الثقافات الأخرى، مما ساعد على اتساع مجالات الأدب واكتشاف أساليب جديدة، بما في ذلك الشعر الرقيق نتيجة لتأثير الجواري.

أبرز شعراء المجون والزندقة في العصر العباسي الثاني

انغمس العديد من الشعراء في حياة اللهو والمجون، حيث ارتبط انغماس بعضهم بتحلل الأخلاق والبعض الآخر كوسيلة للهروب من أعباء الحياة، مما أدى إلى اختلال موازين القيم وفساد في حياة الناس والدولة. ومن بين هؤلاء الشعراء الذين ساهموا في ذلك:

الحسين بن الضحاك

يعتبر من أشهر الشعراء الماجنين، ويُعرف بلقب الخليع بسبب إفراطه في تناول الخمر. أصبح اسمه مرتبطًا باسم أبي نواس، أحد أبرز المجانين في العصر العباسي الأول، وقد أصبح نديماً للأمين وشارك في مجالس بعض الخلفاء مثل المعتصم والواثق والمتوكل. من أشعاره الماجنة:

أخوَّي حي على الصبوح صباحا

هُبَّا ولا تعدا الصباح رواحاهذا الشميط كأنه متحيرٌ

في الأفقِ سد طريقه فألاحاما تأمران بقهوةٍ قرويةٍ

قرنت إلى دركِ النجاح نجاحامهما أقام على الصبوحِ مُساعدٌ

وعلى الغبوقِ فلن أريدَ براحاهل تعذران بديرِ سرجس صاحباً

بالصحو أو تريان ذاك جُناحاإني أعيذكما بألفةِ بيننا

أن تشربا بقرى الفراتِ قراحاعجت قواقزنا وقدس قسنا

هزجاً وأصخبنا الدجاج صياحا

عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع

يُعتبر حفيد الفضل بن الربيع وزير الرشيد والأمين، نشأ في بيئة من الترف والنعيم، حيث اعتنى والده بتعليمه وتربيته حتى أصبح متقنًا في الشعر وعباراته. ارتبط بواحدة من الجواري التي تجيد الغناء، مما جعله يقضي الوقت معها بحجة تعلم فنون الغناء، وقد أخذ منها ومن رفيقاتها أفضل الأصوات.

تفاعل أيضًا مع بعض المغنين مثل إسحاق الموصلي، مما ساعده على اكتساب مهارات الغناء وأدى إلى شهرته الواسعة. وقد دعاه الخلفاء لسماع أغانيه، حيث كان يعزف على العود مغنيًا بعض أبياته، منها:

أسلم وعمّرك الإله لأمة

بك أصبحت قهرت ذوي الإلحاد

لو تستطيع وقتك كلّ أذيّةٍ

بالنفس والأموال والأولاد

Scroll to Top